أما بعد

أما بعد.. لا ترخصوا السياسة بأمثال “أبو الغالي”

في ظل الأزمة السياسية التي تكاد تعصف بالأحزاب المغربية، حيث تتفاقم خيبة الأمل ويتعمق فقدان الثقة بين المواطن والمؤسسات الحزبية، تتبدى معالم المشهد المأساوي الذي يكشف عن عجز الأحزاب في كسب ثقة غالبية المغاربة، كما تبيّن استطلاعات الرأي التي تضعها في أسفل سلم المؤسسات الموثوقة.

هذا الانحدار لا يعود فقط إلى ضعف الأداء السياسي، بل إلى التداخل الصارخ بين المصالح الشخصية والمسؤوليات الحزبية والعامة، ما أدى إلى تفاقم أزمة الثقة التي يحتاجها المجتمع اليوم أكثر من أي وقت مضى، لا سيما في ظل انحصار البدائل السياسية الحقيقية التي يمكن أن تُعيد بصيص الأمل للمواطنين.

حزب الأصالة والمعاصرة ليس بمنأى عن هذا المشهد السريالي، فقد كان ضحية لنفس الديناميكية المدمرة، حيث كانت قياداته في الآونة الأخيرة شاهدة على فضائح لا تعد ولا تحصى، آخرها تورط سعيد الناصري وعبد النبي بعيوي في ملف “بارون المخدرات” المعروف بـ”إسكوبار الصحراء”. ناهيك عن عزل أو محاكمة العشرات من رؤساء الجماعات المنتخبين تحت لواء الحزب.

هذا الوضع المأساوي يفرض على الحزب تحديًا تاريخيًا، ليس فقط في تصفية صفوفه من العناصر الفاسدة، بل في تقديم نموذج فعلي للأحزاب الأخرى، يُثبت قدرتها على الصمود أمام “الفيروسات” السياسية التي تتسلل إلى مفاصلها مهما كانت.

الحل؟ قد يبدو بسيطًا ولكن يتطلب شجاعة استثنائية؛ تطبيق إصلاحات حزبية صارمة تشمل تحديث آليات اختيار القيادات ومنح التزكيات. فلم يعد مسموحًا تسليم المناصب لمن تلطخت أيديهم في مستنقعات الفساد أو تحوم حولهم شبهات واضحة. كما يتعين تعزيز دور لجان الأخلاقيات داخل الأحزاب لمراقبة سلوك القيادات بشكل مستمر واتخاذ التدابير اللازمة حين تنكشف التجاوزات.

الفساد المستشري بات يغذي مشاعر اليأس بين المواطنين، ويعمّق فجوة عدم الثقة. وملف صلاح الدين أبو الغالي لا يُعد إلا جزءًا من هذا “الانهيار الأخلاقي”؛ فقد تم تجميد عضويته في حزب الأصالة والمعاصرة إثر خلافات تجارية وشبهات فساد. فأبو الغالي لم يكتفِ بإلحاق الضرر بالآخرين كما كشفت ذلك بلاغ المكتب السياسي للبام، بل حاول تحويل أعضاء حزبه إلى عملاء تجاريين في محاولة لا تخلو من الجشع.

وهنا، لا بد من الوقوف على ضرورة فصل المصالح الشخصية عن الشأن العام. فهذا التداخل المميّع لا يضر فقط بصورة الأحزاب، بل يهدد جوهر العملية السياسية برمتها. لذلك فالأحزاب السياسية بحاجة اليوم إلى التزام صارم بتطبيق القوانين التي تمنع الفاسدين من تسللهم إلى المناصب القيادية. ولتحقيق ذلك، ينبغي إنشاء آليات تقييم دائمة للقيادات، مع تطبيق العقوبات بشكل حازم عند الضرورة.

أضف إلى ذلك، أن تجديد الثقافة الحزبية وتخطي الأساليب التقليدية القائمة على الولاء الشخصي دون معايير الكفاءة والنزاهة، أصبح أمرًا لا مفر منه. ومراجعة قانون الأحزاب ووضع معايير أكثر صرامة لاختيار القيادات سيساهم في رفع كفاءة الأداء الحزبي، وبالتالي استعادة ثقة المواطن.

وفي الأفق البعيد، الإصلاح الحقيقي لا يكمن فقط في سن قوانين جديدة، بل في غرس قيم المواطنة والممارسة السياسية السليمة، وتربية جيل جديد قادر على تحمل مسؤولياته السياسية بأمانة ونزاهة، بالإضافة إلى تشجيع الشباب على الانخراط في الحياة السياسية بطريقة نزيهة ومسؤولة، سيخلق نخبًا سياسية جديدة، تملك رؤية أخلاقية ومبدئية لممارسة السلطة.

حينها فقط، قد تتمكن الأحزاب من استعادة ما تبقى من ثقة المواطنين، والمساهمة في إعادة تشكيل المشهد السياسي بما يخدم الديمقراطية والاستقرار في المغرب.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *