وجهة نظر

جلالة الملك…. شكرا لكم

في ذلك الصباح المشرق من شهر ماي، رن الهاتف في غرفة الفندق، كنت أعتقد أني سأغط في نوم عميق.

كان الذي يكلمني صوت رافقني طوال عمري، إنه الحاج محماد الروداني واحد من حفظة القرآن وحامليه، صديق للعائلة وللوالد.

وحتى دون أن يحييني بتحية الإسلام كعادته انسل صوته صارخا من الهاتف:

إنها المصيبة؟

ما تعودته يتحدث دون إلقاء التحية.

سألته ما الخبر ياعمي الحاج؟

رد بنوع من العنف اللفظي إنها المصيبة، المسجد يحترق وأنت نائم؟ كأنه يحاسبني عن خبر لم يبلغني بعد.

– أي مسجد تقصد آعمي الحاج ؟ معقبا عليه .

أجابني وحشرجة البكاء تلازمه:

– كم من مسجد لدينا إنه المسجد الكبير بتارودانت؟ ويقصد المسجد الأعظم معلمة تارودانت و سوس العالمة ومعلمة تاريخ المغرب.

صدمت بدوري.

وأقفل خط الهاتف حتى دون أن يودعني.

كلمت أخي حميد في الموضوع ، وقررنا الاتجاه معا إلى تارودانت.

من عادتنا كلما سافرنا معا أن نثرثر في كل شيء السياسة، المال، العائلة…

ولكن هذه المرة ظللنا طوال الطريق صامتين لهول الواقعة.

يبدو أن كل منا يعيد شريط الماضي في علاقته بالمسجد الأعظم “جنان الجامع” كما يحلوا لنا تسميته ونحن أطفال ولأنه بني وسط المدينة، كنا نمر بجواره كلما اتجهنا نحوى المدرسة…. احتضن طفولتنا وشغبنا وإحساسنا منذ الطفولة بالدين.

نلعب في ساقيته ونركض بجوانبه غير مبالين، أهل البلدة لم يكونوا يروا غضاضة في ذلك، لسان حالهم يقول أن وجود الأطفال في باحة المسجد يقربهم من الصلاة، ويقيهم حر الشمس ومصائب أزقة تارودانت الضيقة المعتمة.

تارة يجمعنا شخص متطوعا ليدرسنا القرآن، وتارة يجمعنا شخص آخر ليحكي لنا سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم أو روايات وحكايات الزمان.

كان هذا المسجد بعبقه التاريخي يحمي طفولتنا ويمنحنا فضاء يغوص بنا في عمق الحضارة والتاريخ والدين.

وعندما كبرنا بعض الشيء كنا نلتقي فيه جماعات صغيرة لنهيئ فيه دروس الثانوية.

فصار دخول المسجد جزء من وجودنا اليومي نتحفظ قليلا حينما يكون المصلون ونتملكه كله بين أوقات الصلاة.

كم من قيلولة استمتعنا بقضائها هناك بين صلاتي الظهر والعصر.

انقطعت سبل الذكريات، فجأة حين وقفت السيارة بباب المنزل العتيق محل إقامة الحاج محماد الروداني، دخلت إلى باحة البيت وجدته جالسا وحوله بعض من وجوه المدينة وقد ملأ الفضاء الحزن ورائحة الشاي المنعنع..

كان أحد منهم يتكلم، وعندما دخلت وقف الجميع، ففي سوس عند السلام نقبل أيادي بعضنا البعض، أما أنا فقبلت رأس الشيخ كعادتي تم أجلسني على يمينه، واستمر المتحدث قائلا:

اقترح أن نجمع الأموال بين أثرياء المدينة لنعيد بناء المسجد.

استدار الشيخ نحوي: في ماذا تفكر، ألست برلمانيا؟

فاجئني السؤال وقبل أن استيقظ من هول المفاجأة استطرد قائلا:

-اكتب لجلالة الملك ليصلح المسجد، أو راسل صديقك الشيخ محمد بيد الله رئيس مجلس المستشارين.

أجبته متردداّ:

– أنا ابن تارودانت قبل البرلماني وعموما سأفكر في الأمر.

نطق أحد الجالسين قائلا:

-دعنا نرى البرلمانيين الآخرين ليكلموا رئيس الحكومة في الموضوع فهم من حزبه

نظر إليه الشيخ والشرر يتطاير من عينيه قائلا:

-إن المسجد من مسؤولية من يدعى له في كل خطبة جمعة وهذه أمور ديننا فدعك منهم واهتم بأمور دنياك.

شعرت بإحراج كبير، أما الرجل فقد أحنى رأسه متمتما بكلمات غامضة لم يسمعها أحد من الحاضرين.

وقفت معتذرا، ووقف الشيخ بوقاره وعينيه الغائرتين قال لي وهو متكأ على كتفي: إنه خطب جلل.

قلت له متأثرا: سيجعل الله لنا مخرجا.

رد بتنهيدة من أعماقه: ونعم بالله

توجهت نحو المسجد لاكتشف أن الحريق أتى على معظمه جزء من الماضي تحول رمادا، فالمسجد بني في بداية القرن 16 كان في البداية مسجدا عتيقا صغيرا، ثم جاء محمد الشيخ السعدي ليعيد بناءه ويوسعه، وفي أواخر نفس القرن قام أحمد المنصوري الذهبي بإصلاح صومعته وتزيينها بالفسيفساء الاشبيلي.

وفي القرن 18 بنيت القبتين المتقابلتين بالمحراب من طرف السلطان مولاي رشيد العلوي وفي نهاية الأربعينيات من القرن الماضي زاره المغفور له الملك محمد الخامس العلوي الذي أمر بإصلاحه.

يصلي فيه الناس الصلوات الخمس ويتسم بالرهبة عندما كنا نصلي الجمعة فيه والأعياد كذلك حيث يلتقي جل أبناء المدينة، بعد الصلاة يتبادلون السلام والأخبار. انه قلب المدينة النابض وبوصلتها الجغرافية والروحية، وفي رمضان نحج إليه لصلاة التراويح أو قيام ليلة القدر وبمناسبتها نصل الرحم، إنه الامتداد التاريخي للمدينة ومنارة حضورها الديني.

وبباب المسجد المحترق، اتصلت بوزير الأوقاف وبعد السلام مباشرة وقبل أن أحدثه حول الموضوع بادرني قائلا.

-إن لي خبر بذلك يا ابن رودانة.

فأجبته:

ما العمل إذن

فأجاب:إن بعد العسر يسرا.

عقبت بأسى ونعم بالله.

طوال طريق الرجوع إلى أكادير، كنت مهموما لقد احترق جزء من تاريخ طفولتي ومن أيقونة وجودي، كأن تارودانت فقدت جزء من روحها.

طوال الليل وأنا أفكر في الموضوع، وفي اليوم الموالي، وصلني خبر أن جلالة الملك تكفل بإصلاح المسجد على نفقته الخاصة، وكان القرار أن يتم العمل على إعادته إلى حالته الأصلية.

دخلت على الشيخ وأخبرته. ودون أن يرد علي توجه مباشرة ليصلي ركعتين شكر الله، رفع يديه إلى السماء شكرا لله، تم استدار الشيخ الذي تجاوز التسعين نحوي قائلا: إن هدا الرجل يعني جلالة الملك يسير على خطى أسلافه، تم بدأ يحكي عن زيارة محمد الخامس للمسجد وكأنها بالأمس فقط.

مرت الأيام، و تم اليوم الانتهاء من إصلاح المسجد كاملا، وثم الاحتفاظ التام على شكله الأصلي.

أما الشيخ الذي أسر لي يوما أنه بكى مرتين في حياته، الأولى عندما احترق المسجد الأقصى والثانية في ماي 2013 أي عندما احترق المسجد الأعظم، فإنه يريد أن يصلي فيه قبل أن يلتحق بدار البقاء .

وبيقينه الديني يبلغني بوصيته على شكل أمنية يمنى بها النفس بعد أن صلى في ذلك المسجد أكتر من خمسة وثمانين سنة وهي : أن يصلى عليه صلاة الجنازة بباحة المسجد الأعظم.

نظرت إليه بغرابة وتمتم قائل جزى الله الملك عن تارودانت وأهلها خيرا، يجب أن تكتب للملك رسالة شكر فمن لا يشكر الناس لا يشكر الله تم سلم علي واتجه نحو بيته وهم يتمتم بالأدعية على الجميع.

صاحب الجلالة: شكرا لكم.