منوعات

ثقافة الفرار

قضية ما بات يعرف إعلاميا بالهروب الجماعي في اتجاه ثغر سبتة المحتلة، قد يرى فيها البعض مرآة عاكسة لواقع سياسي واقتصادي وسوسيوثقافي، منتج لثقافة اليأس والإحباط وانسداد الأفق، ومقوي لأحاسيس الرفض والهروب والفرار من تحت أجنحة الوطن، وقد يرى فيها البعض الآخر، مناسبة لفتح نقاش حقيقي حول مستقبل الكثير من المقاطع الترابية الوطنية، التي لازالت تحت الاحتلال، ومنها على الخصوص مدينتي سبتة ومليلية السليبتين وعدد من الجزر المتوسطية، وقد يرى فيها البعض الثالث مؤامرة  خارجية حقيرة، تحمل لمسات نظام العداء الخالد بالجزائر، الذي لا يتردد ولن يتردد في استغلال الفرص المتاحة، لإشباع عطشه العدائي للمغرب ووحدته الترابية، وقد يرى فيها البعض الرابع، فرصة لمساءلة مختلف مؤسسات التنشئة الاجتماعية، التي لم تعد تتحمل مسؤولياتها المواطنة، في التربية على القيم الوطنية والدينية…

 

ومهما أسهبنا في استعراض الرؤى والمواقف، لابد من الإقرار أن ما حدث في الفنيدق ومحيط سبتة المحتلة بشكل خاص، هو إساءة  لصورة للوطن ونـسف لما تحقق ويتحقق من جهد تنموي وإشعاع إقليمي ودولي، والمسؤولية هي مسؤولية مؤسسات وجماعات وأفراد، تبدأ بالأسرة والإعلام والأحزاب السياسية وقطاع الشباب والرياضة…، وتنتهي بالسلطات المنتخبة والبرلمان والحكومة والدولة برمتها، مسؤولية كل من لا يتحمل مسؤولياته التربوية والتوعية والتحسيسية، مسؤولية كل مسؤول لا تتحرك فيه مشاعر الوطن، مسؤولية كل منتخب فاسد، أفسد السياسة بعبثه وأنانيته المفرطة وجشعه، مسؤولية كل الأحزاب السياسية التي تحول جلها ما لم نقل كلها، إلى دكاكين سياسية حقيقية، بات شغلها الوحيد والأوحد، أن تجني زيتون ما تجود به الممارسة السياسية من ريع وكراسي ومناصب ومكاسب، مسؤولية كل مسؤول فاسد، يعرقل عجلة البناء والنماء، ويمنع الوطن من حقه المشروع في اللحاق بركب الدول المتقدمة والمزدهــرة، مسؤولية كل فاعل سياسي أو إداري أو اقتصادي، يصنع اليأس ويقوي الإحساس الفردي والجماعي بالظلم والحيف والإقصاء وانسداد الأفق، مسؤولية كل من جعل جيلا بأكمله، يؤمن أن أحلامه هناك خــارج الوطن، ويعتقد أن الافتكاك من الوطن، هو أول خطوة في مشوار معانقة الأمل والمستقبل والكرامة والحياة الاجتماعية؛

 

وحتى لا نعلق كل ما حدث على حائط المؤامرة، فتنامي ثقافة الفرار والهروب من الوطن في أوساط الأطفال والمراهقين والشباب، يفرض طرح الأسئلة التالية: ما الدافع أو الدوافع التي تجعل طفلا صغيرا أو شابا مراهقا، يهجر المدرسة ويطلق القلم والكراسة بشكل لارجعة فيه، في زمن “خارطة الطريق” و”المدرسة الرائدة”، ويسلك طريق الموت، جريا وراء أحلام وردية، يعتقدها هناك خارج الوطــن؟ كيف وصل أطفالنا وشبابنا إلى مستويات متقدمة من اليـأس وانسداد الأفق، إلى الدرجة التي تحول فيها الوطن، مجرد جدار حصين، يرونه سدا منيعا بينهم وبيـن اليأس والأمل ما لم نقل بين الموت والحياة؟ وقبل هذا وذاك، كيف تحول فعل “الفرار” و”الهروب” إلى ثقافة فردية وجماعية، بكل ما يحمله هذا الوضع، من ترويج لصورة سيئة للوطن، لا تعكس حجم  ما يعيشه البلد من دينامية تنموية ومن أوراش كبرى، تقوي الإحساس أن مغرب اليوم، لم يعد كمغرب الأمس؟

 

ما وقع في محيط سبتة المحتلة من إساءة، لا يمكن البتة، أن يطوى أو يسدل عليه الستار، بمجرد إيقاف العشرات من مرشحي الهجرة السرية الأجانب، وعودة الأوضاع إلى سالف عهدها، فمن باب المواطنة الحقة، ومن زاوية الغيرة على الوطن، الذي لا نتمنى إلا أن يكــون بهيا وآمنا ومشرقا، لابد أولا، من تجفيف المنابع المغذية لثقافة اليأس والفرار والهـــروب، عبر التصدي إلى أعداء الداخل، ممن يصنعون اليأس بانعدام مسؤوليتهم وأنانيتهم المفرطة، وسعيهم العبثي وراء المصالح والمكاسب والمغانم على حساب مصالح الوطن وقضاياه المصيرية، ويرسمون صورة سيئة للوطن، مرادفة للرفض والنفور والفرار والهجران، وتحقيق هذا المسعى، لن يمر إلا عبر إشهار سيف “ربط المسؤولية بالمحاسبة” في وجه الفاسدين والعابثين والمفلسين، وتحريك آليات “عدم الإفلات من العقاب”، ولابد ثانيا، من تقديم حلول تنمويـة مبدعة ومبتكرة، من شأنها الحد من الفقر وتوفير فرص الشغل، وكبح جماح الارتفاع المهول في الأسعار، وتحقيق التنمية المجالية خاصة في الكثير من المجالات، التي لازالت تتقاسم البؤس التنموي، وإعادة الاعتبار للمدرسة العمومية لتصبح قاطرة للارتقاء الاجتماعي، وبهذا النهج، يمكن أن تبنى الثقة في الدولة والمؤسسات، وأن يزرع الأمل في أوساط شرائح واسعة من الأطفال والشباب، الذين يمكن إقناعهم أن الأحلام يمكن أن تبنى بين أحضان الوطن، إذا ما وجدوا أمامهم من يحول “ضيق العيش” إلى “فسحة أمل”؛

 

 وفي المجمل، فبقدر ما نثمن وننوه بما تحقق ويتحقق في عهد الملك محمد السادس من منجزات ومكاسب ومفاخر، بقدر ما نرى، أن الوضع كان  سيكون أفضل وأحسن، لو سلم الوطن من أذى صناع اليأس من المفسدين والعابثين والأنانيين، ممن أفسدوا السياسة وأربكوا ما تتطلع إليه الأمة، من إصلاح وإقلاع تنموي شامل، وجعلوا جيلا بكامله، يؤمن بالفرار، حتى لو كان مقرونا بالموت والهلاك، ومغرب اليوم، الذي يواجه تحديات ورهانات كثيرة، لابد أن يطوي صفحات كل من كان شريكا في الفشل، ومساهما حقيقيا في صناعة اليأس، ويفتح الأحضان، لما يزخر به الوطن من كفاءات حقيقية، مشهود لها بالنزاهة والاستقامة ونكران الذات، من شأنها الانخراط المواطن، في المسيرة التنموية التي يقودها عاهل البلاد، بشكل يساعد على تمتين لحمة الجبهة الداخلية، وصــون الوحدة الترابية، وتقوية الإحســاس الفردي والجماعي، بمغرب التغيير والأمل والمساواة والكرامة والعدالة الاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *