وجهة نظر

قراءة “جيومجالية” في مفهوم “المشهد”

كثيرا ما يُتداول في حقل الصحافة والإعلام والسياسة مفهوم المشهد، ويأتي على شكل صيغ عديدة من حيث التركيبة اللغوية ونقول مثلا “المشهدُ الإعلامي العربي بعد حالة الثورات، و ملامح المشهد الإعلامي في ظل التحولات السياسية الراهنة، كما نقول تحسنٌ ملحوظٌ على مستوى المشهد الإعلامي المغربي”، وفي السياسة نقول ” الأطياف المشكلة للمشهد الحزبي والسياسي، ونقول الديمقراطية تقتضي المسؤولية الجماعية وليس الرغبة في الهيمنة على المشهد السياسي لخدمة الأغراض الشخصية ” وغيرها من التعَبير اللغوية المتداولة في الإعلام والسياسة.

لكن تعالوا معي لنتساءل عن أصل المفهوم، والحقل المعرفي الذي ينتمي إليه، وعن دلالته ومعانييه في المعاجم العربية ؟.

لقد ظهر مفهوم المشهد في أوربا منذ بداية القرن التاسع عشر مع الجغرافي الألماني “فردينالد فون ريختون”، و قال عنه “محمد باحو” في منشوره المُعنون بالفكر الجغرافي الحديث و المعاصر، أنه ارتبط بميدان الجغرافيا منذ سنة 1883 وإهتم بدراسة مشاهد سطح الأرض. وللبحث عن دلالة المفهوم في اللغة العربية كان لابد من الرجوع إلى كتابات الجغرافيين العرب القدامى مثل “ابن بطوطة” و “البكري” و التيجاني” و مقالات متعلقة بوصف العالم، والمعاجم و النصوص التي تحتوي على المفهوم، ونتيجة البحث أن هناك كلمتان تدلان على المفهوم وهما ” المنظر” و “المشهد” وقد استعملت كلمت المنظر لدى العرب قبل المشهد منذ حولي القرن 17 ولقد دُكِرَ ذلك في كتاب ” géographie arabe et le concept de paysage ” لكاتبته “lamai latiri “.

وعند كتبات الجغرافي العربي”التيجاني” أثناء وصفه للعالم خلال رحلاته، نجده قد وضع عدة تعَبير لدلالة على مفهوم المشهد مثل “المناظر، تفرج، متفرجات، متفرجون، شاهد” كما أشار إلى أنه في أماكن أخرى يعرف باسم “باب المنشر” و الذي يعتبر من أكثر المشاهد الجميلة وفي هذا إشارة إلى أن الثقافة العربية تضاعف التمثيل الأدبي لكلمة المشهد.

ومفهوم المشهد في اللغات الأجنبية يقابله “lndschaft” بالألمانية و “land scape ” في الإنجليزية، أما في اللغة الفرنسية فإن المفهوم تقابله كلمة “paysage” وترجمتها في القواميس العربية مثل لسان العرب و المنجد تعني “منظر بري، منظر ريفي، منظر بحري، منظر طبيعي” والملاحظ من خلال ترجمة كلمة ” le paysage” إلي اللغة العربية تكون دائما متبوعة بكلمة أو بوصف يبين نوعية المشهد الملاحظ، مثل القول المنظر التاريخي أو المنظر المعماري أي المشهد الحضاري.

وكلمة المنظر مشتقة من فعل نظر، النظر، النظرة، الرؤية، حسن العين، حساسية العين، إذن فالمنظر ما تنظر إليه فيثير إما إعجابك أو إساءتك من خلال نظرة عامة، وكلمة مشهد أيضا تشير إلى مشهد عام أو مكان حادث، كما ورد في كتابات “hélène janniérek” .

المدارس التي تناولت دراسة مفهوم المشهد

أولا- المدرسة الألمانية

كان الألمانيين سباقون لدراسة المفهوم وعلى رأسهم “أوطو شلوتر”، وعرفوه منذ البداية على أنه ” علم المشاهد” وابتكروا بتوجيه من المذهب الوضعي الذي كان سائدا آنذاك، عددا من المناهج لتصنيف المشاهد و تحليل عناصرها، حيث يتم تمييز “المشهد الطبيعي” عن “المشهد الثقافي”.

ثانيا- مدرسة بركلي

في سنة 1925 نشر “كار ساور” مقاله المشهور “مورفولوجية المشهد” وكان بذلك أول من أدخل كلمة المشهد في معجم الجغرافيا الأمريكية، نقلا عن مصطلح “اللاندشفت” وقد عرف “ساور” المشهد بأنه مجال يتألف من تشكيلات طبيعية وثقافية متمايزة، ويعالجه الجغرافيون بالرجوع إلى أصوله الطبيعية و تتبع تطوراته إلى أن يصبح مشهدا ثقافيا، لكن سرعان ما خابت أمال”ساور” حينما اكتشف أنه لا يمكن استرداد أصل المشاهد الطبيعية، نظرا لتدخل الإنسان فيها منذ ألاف السنين، ومع بداية الخمسينات – بعيدا عن تقاليد جامعة “بركلي” التي مثلها “ساور”- برز عالمان أصبح لهما تأثير كبير، الأول انجليزي وهو المؤرخ “هسكنس” الذي قام بدراسات معمقة حول تاريخ المشاهد أهمها ” تشكيل المشاهد الإنجليزية ” الذي صدر سنة 1955، أما الثاني فهو “جاكسن” الذي أسس مجلة سماها “المشاهد” وانطلق يكتب وينشر فيها حول المشاهد.

ثالثا- المدرسة الفرنسية

لا يمكن أن نذكر هذه المدرسة ولا نتحدث عن أبيها الروحي الذي أسسها “فيدال دو لبلاش”، الذي بدوره علاج موضوع المشهد عندما تحدث عن تحليل شكل مظهر الأقاليم، ثم حاول استعمال كلمة “scéneri ” المشتقة من كلمة “scenery ” الانجليزية والتي يمكن ترجمتها بكلمة “منظرة”، قبل أن يستعمل كلمة “paysage” و التي كانت هي المفهوم المؤسس لأشهر مؤلفاته، وحسب “دو لبلاش” فإن المشهد يتشكل من تراكيب إقليمية، وبالتالي فهو ليس مشهدا مرئيا فقط بل وثيق الصلة بالإقليم الذي تبلور أكثر بوصفه مفهوما بفضل تطور علوم الأرض (الجيومورفولوجيا والجيولوجيا) التي كانت أساس التقطيع الترابي بفرنسا.