بسيكو- سياسة

قطاعات عمومية كثيرة وحتى خصوصية، تعتمد على آلية الاختبارات البسيكوتقنية، لانتقاء الأصلح والأجود معرفيا وسلوكيا ولغويا ومهاريا ومظهريا، كأسلوب استباقي وتوقعي، يسعى إلى تحقيق هدفين مترابطين، أولهما: إزاحة أو تحييد الأشخاص “غير المناسبين”، اعتبارا لخصوصيات الإدارة أو المؤسسة، وثانيهما: انتقاء “البروفايلات” التي يمكن أن تشكل قيمة مضافة، على مستوى تطوير الأداء وتحسين المردود، وتحقيق الأهداف المسطرة؛
لكن في حقل السياسة، تختلف الأمور تماما، فكل الشوارع والمسالك المؤدية إليها، مفتوحة لكل من هب ودب، والولوج إلى ترابها مباح ومتاح بدون تعقيدات حدودية، ولا مراقبة ولا تفتيـــش، فالشواهد الجامعية لا مكان لها، والكفاءات لا محل لها من الإعراب، فلا يهم أن يكون الشخص مريضا نفسيا، أو معطوبا معرفيا، أو معاق سلوكيا، أو متسلطا مصابا بجنون العظمة، يكفي فقط، أن يتوفر على مستوى مقبول في “تخراج العينين”، وشهادة الأهلية في “التسنطيحة”، ودبلوم تقني متخصص في “النفاق” و”تغيير الأقنعة”، وقدرات هائلة في تعبئة “الميكروبات” و”الكلاب” و”الذئاب” و”الحمير”، وتسخيرها في النزالات السياسوية البئيسة، ومهارات ناعمة وصلبة في “المعاطية السياسية” …
حينما تتحول السياسة إلى ملجأ للوصوليين والانتهازيين والمسترزقين والتافهين ومنعدمي المسؤولية والضمير، وإلى مباراة بدون شرف ولا مبادئ ولا أخلاق والتزام، وحينما تتحول معظم الأحزاب السياسية إلى ما يشبه “الدكاكين السياسية”، التي لا تنشط إلا في مواسم الانتخابات، دون أن تتحمل مسؤولياتها المواطنة في التأطير والتنشئة السياسية والاجتماعية، والإسهام في تطهير المشهد السياسي من الكائنات اللاسياسية، وحينما تخضع “التزكيات” إلى منطق الولاء والمحاباة والموالاة والمصالح …، فلا نتفاجأ أن تتحول “الميكروبات” و”الحمير” و”الكلاب” و”القردة” و”الذئاب” إلى نجوم ساطعة، في زمن الانحطاط السياسي، كما لا نتفاجأ أن يبرز في الساحة، فاعلون سياسيون يسرقون الأضواء، يسجل لهم، أنهم ينشطون البطولة السياسية اللاحترافية، ويحركون مياهها الراكدة، بما يصنعونه من “تبهرهيش سياسي”، وما ينتجونه من “حموضة”، تجاوزت بكثير حموضة حريرة رمضان …
المصالح العليا للوطن وقضاياه المصيرية والاستراتيجية، وحساسية الظرفية التي تمر منها قضية الوحدة الترابية للمملكة، وحجم التحديات التنموية والاقتصادية المطروحة، في مجالات حيوية كالشغل والصحة والتعليم والسكن، والعمق الاستراتيجي للمبادرات الخلاقة والمبدعة التي أطلقها عاهل البلاد، الدافعة في اتجاه خدمة القوة المغربية الناعمة، والرهانات المتعددة الزوايا ذات الصلة بتنظيم العرس الكروي الأكبر في العالم، كلها اعتبارات من ضمن أخرى، تفرض دق ناقوس الخطر، بعدما تحولت السياسة إلى جزء من الأزمة، والفاعلون فيها، إلى معرقلين حقيقيين للحق المشروع للوطن، في النهوض وتثبيت الأقدام والإقلاع والتطور والازدهار؛
وإذا كان من حل أو علاج، فهو يمر قطعا عبر بوابة أحزاب سياسية “مواطنة”، تتحمل مسؤولياتها في التأطير السياسي والاجتماعي، وخدمة الصالح العام بمسؤولية وتضحية واستقامة ونكران ذات، بمعزل عن الحسابات السياسوية والهواجس الانتخابوية الضيقة، و”منتجة لديمقراطية داخلية حقيقية”، تقطع مع زمن “الزعامات الخالدة”، وتعبد الطريق، أمام جيل جديد من القيادات والزعامات الشابة، القادرة على إنتاج خطاب سياسي رصين ومسؤول، وصناعة أفكار ورؤى ومشاريع واستراتيجيات، تتناغم مع العمق التنموي والاستراتيجي للسياسة المتعددة الزوايا التي يتبناها عاهل البلاد، وتستجيب لما يتطلع إليه المواطنات والمواطنون، من مطالب واحتياجات تنموية مشروعة؛
وبقدر ما يمر الحل عبر الأحزاب السياسية نفسها، التي تبقى مطالبة بتقويم وتصحيح الاعوجاج، بقدر ما يمر علاوة على ذلك، عبر المواطنات والمواطنين، الذين يتحملون قسطا، فيما آل إليه الفعل السياسي من تراجع وبؤس، إما بنفورهم من العمل السياسي، أو بلعبهم دور “الكومبارس”، مكتفين بالفرجة على ما يعتري مباريات السياسة من “صبيانية” و”تبهريش”، أو بتكريسهم للرداءة السياسية، باختيارهم لمن يعيث في جسد السياسة عبثا ووقاحة، في غياب سلطة الضبط؛
وفي المجمل، لم يعد ممكنا، القبول بأن تبقى الساحة السياسية، رهينة العبث وبؤس الخطاب، لما لذلك، من تكريس لفقدان الثقة في السياسة والفاعلين فيها، ومن تعميق لبؤر اليأس وانسداد الأفق في أوساط المواطنين، وبات من اللازم، إعادة الاعتبار للأحزاب السياسية والسياسة والانتخابات والديمقراطية التمثيلية، والإسهام الفردي والجماعي، في إنقاد السياسة من العابثين والأنانيين والوصوليين والانتهازيين، باعتماد ما يشبه “البسيكو-سياسة”، لاختيار الأحسن والأجود، على مستوى الأداء والسلوك والخطاب …، وعدم التهاون في إشهار سيف “ربط المسؤولية بالمحاسبة”، في وجه منعدمي المسؤولية والضمير، الذين لا مكان لهم، في مغرب ينهض ويتحرك …
اترك تعليقاً