وجهة نظر

الصورة وما بعدها ..

” إن صورة الفكر في بنائيته المستعادة تتجاوز فلسفة التمثيل والحضور، الماهيات والثنائيات والوحدة المفترضة للفكر والوجود ،عن طريق فلسفة الحدث والرغبة والمتعدد” ـ جيل دولوز ـ

تنخلق الصورة من خارج متاهة الوجود، متجردة من حدودها في الإفصاح عن فعلها في الواقع والما بعد. فهي بين اليوتوبيا والأيديولوجيا، تحاذر من أن تقع بين كماشتي صراع يؤولها إلى ما لا تستعيد به حقيقتها وشغفها الإيتيقي، في القبض على الأشياء التي تعكسه زخمها وخلفياتها الثقافية والسوسيولوجية والنفسية، وكذا تمظهراتها في تأويل الأحداث والوقائع والاحتمالات.
وعلى ضوء هذا النظر، يمكن تقييس الصورة، في مضمار حضورها الشعوري الحسي، من خلال تمثلها إلى مجالات توريتها واستشعارها كأداة للبناء على فكرة أو مجاز، ثم عبورها إلى الترميز والإيغال التأويلي الفارق، من أجل أن تبرز كملاذ أيقوني، يحول الرؤية من حالة عامة إلى زمن متحرك، كما الفضاء المستثمر إلى حاضنة متناغمة مع أشكال تعبيرية (فوتوسية)، قادرة ومستمدة قوتها من فعل الواقع وإعادة تشكيله.
ويراهن اشتباك الصورة ذاك، على إشباع الوجود بما يحول طاقته المستقطعة، إلى خلفية مظهرية، كما الروح إلى جسده الثاوي، أو أصله المستعاد، وتوسيع مدارك رمزية وفنية صميمة، بمشاكلة تدفق الزمان ومساره الاعتيادي وتحنيط ارتداداته وعزلها واجتثاثها من منبتها. وبهكذا تصير الصورة المستقاة من هواجس الاشباع إياه، مكتملة الأركان ومنذورة في تخوم لغتها ومحاكاتها للمعنى، من حيث كونه فائضا على قوة الشيء الذي تتملكه، بالإضافة إلى إيلائها للمثال الذي تحمله، كصفة موصوفة ورامزة للعلامة أو الأيقونة التي تشملها، ثم انشغالها بما يعضد مفرقها التقنوي، كثقل جناح طائر لا يختل ولا يسقط.
إن ما يشكل حقيقة الصورة، ليس قصدا ما تقوم بنسخه أو التقاطه على سبيل المطابقة. بل تتعدى ذلك إلى ما وراء الاستثارات الفنية والجمالية، حيث تمسح جزءا من عوالم  نظر جزئية تعني العالم الواقعي ولا ترتقي البتة إلى بناء نظرة كلية على الرغم من التقدم الكبير الذي عرفته الوسائل التقنية والثورة الرقمية في الرصد والملاحظة. إذ التحقق البصري، ينحو بحسب سعيد بنكراد، إلى التقْليص من الحجْم الدَّلاليِّ للحدث، دون أن يتخلص من سياجه الافتراضي، ثم لاعتبارية القراءة المسبقة لهذا التحقق، أو حتى “هوية بصرية محايدة”، في أدنى اعتباراتها الدلالية. لكن الواجهة الغيابية لهذه الوضعية، تأخذ بعدا استشرافيا مغايرا تماما، حيث تنجلي صفة الصورة المعنية، كبديل لما يسميه بنكراد ب”الكم الدلالي المجرد”، بما في ذلك قدرة اللغة على التعبير عن المعاني المحايثة والدقيقة، وتحقيق التآلف بينها وبين المعجمية والوظيفية لكل زاوية أو شكل أو فضاء عام. وهو ما يعكس التراخي والتقويض المصاحبين لازدحام الذاكرة وخروجها عن السيطرة.
تصير الصورة جماعية، تتجاسر في أتون فرديتها، لتعمم كإحالة على المآل المرتفق لشغورها طاقة خاصة منفلتة من إهاب الصمت، إلى عالم القطائع والاستعادات المبطنة. وتتبدد مسارب الهشاشة فيها، بانصياع لدفقات تحوطها من مشاعة التبئير والتحيز، لتعيد ترسيمها في الوجدان البشري، بمعادلة شرطية تؤول إلى لغة الذهن، التي تشكل لب سؤال ما ترمز إليه طفرة الوجود المادي لما يسميه بيير بورديو ب”كينونة الصورة”، عبر الحسم في متاهة سوسيولوجية الجسد: “ما إذا كان الانسان جسد مادي تسكنه روح وأفكار، كيف يكون وجوده مرتبطا بتأثيره في الوسط الاجتماعي الذي يشكّل كينونته في صورتها الكلية؟”.
هذا يعني، أن عصر الصورة الوسيطية، تنهي قلقنا الصيروري تجاه خطاباتنا المجتزأة وتطرفنا بإزاء انشغالها بالتوصيف الكلاسيكي للخطاب والنصية المستقطعة من ذوات مفتاحية، تقوم على الاستتباع وتوتير العلامات والتخزين الحرفي للمتخيل. لتعود الصورة التلفزيونية، والصورة السينمائية وحتى الرقمية، بديلا ميديولوجيا لاكتمال أفق السرد الجمالي والواجد للمعنى، دون افتراق مع النسق الآخر، بتعبير ريجيس دوبري. فهو بمثابة الناهض بالصناعة والكاشف عن تمثلاتها وتأويلاتها المستحدثة والصامدة ضد أرياح العبور والانتقالات. كذا هو الاصغاء للذاذات الصور، وتحويلها الى مباهج وعواطف وانثيالات، يكون بمتابة الاقتراب من المعرفة، الإحاطة بها وإشاعتها، تماما، كالقدرة على التفلسف بها، وتفريغها من المهارف والمخارف والتشوهات. اذاك، تصير ” بلا سلطة ولا نفوذ ، بقليل من المعرفة، وشيء من الحكمة، وأكثر ما يمكن من الالتذاذ ” بتعبير رولان بارت.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *