وجهة نظر

أحمد بوز يكتب: البودشيشية بين الروحي والسياسي

أحمد بوز، أستاد القانون الدستوري والعلوم السياسية بجامعة محمد الخامس

ربما لم يسبق أن حظيت زاوية بهذا القدر من الاهتمام الرسمي والإعلامي وتفاعل الرأي العام، كما هو الحال مع الطريقة القادرية البودشيشية. فبعد وفاة شيخها حمزة قبل بضع سنوات، كان لافتا الحضور الرسمي البارز في تأبينه، إذ شارك فيه اثنان من مستشاري الملك، فؤاد علي الهمة وعمر عزيمان، إلى جانب وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية أحمد التوفيق. وعقب وفاة خلفه الشيخ جمال في شهر غشت الجاري، برز بشكل لافت تصدر أخبار الزاوية لعدة أيام قائمة “الترند” في مختلف وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي، خصوصا في ظل ما تلا ذلك من تطورات متسارعة، بدأ بتلاوة وصية “لي عندي عند ولدي منير” التي نقل فيها الشيخ الراحل قيادة الطريقة إلى ابنه الأكبر، مرورا بصدور بيان منسوب لهذا الأخير انتشر على نطاق واسع يعلن فيه تنازله عن الخلافة لصالح أخيه الأصغر معاذ، وليس انتهاء ببيان مضاد صادر عن “رابطة الشرفاء البودشيشيين” ذهب إلى حد اعتبار “بيان التنازل” بمثابة “انقلاب” داخل الزاوية، قبل أن تعود لاحقا لكي تزكي معاذ شيخا لها.

وبغض النظر عن الصورة السلبية التي سوقتها خلال هذه الأيام، كزاوية عادت لكي تصاب بعدوى الخلافات وتصادم “الأجنحة” داخلها بشكل يذكر بما حصل خلال السبعينيات من القرن الماضي بين الشيخ حمزة والشيخ عبد السلام ياسين مؤسس جماعة العدل والإحسان، وبغض النظر أيضا عن أساس هذا الخلاف الذي قد يكون مفهوما بالنسبة لزاوية أضحت تتمتع بنفوذ روحي ومادي وإداري، فإن مثل هذا الاهتمام غير المسبوق لابد أن يثير تساؤلات حول الأسباب الكامنة وراءه. فلم تعد القضية، كما قد يفترض، مجرد شأن داخلي يخص الطريقة وأتباعها أو من تسميهم “فقرائها”، بل تحولت إلى حدث وطني بارز استقطب اهتمام وسائل الإعلام، وأثار نقاشا أوسع حول المكانة التي باتت تحتلها هذه الزاوية في المشهد المغربي، والدور الذي تمارسه في تداخل الحقول الروحية والاجتماعية والسياسية.

من المعروف أن “زاوية مداغ” كانت قد تمكنت خلال العقود الأخيرة من استعادة حضور لافت في المشهد المغربي، حيث تحولت من إطار روحي صوفي أساسه التربية على الذكر والخلوة، وفقا لما تحرص أن تقدم نفسها، إلى فاعل اجتماعي وسياسي يتقاطع، في أدوار معينة، مع حسابات الدولة وخياراتها في تدبير الحقل الديني والسياسي، سواء عبر توظيفها في التعبئة أو من خلال إدماج رموزها في مواقع حساسة داخل بنية الأجهزة الرسمية للدولة. لكن أن يصل الأمر إلى حد تصدرها المشهدين السياسي والإعلامي، فذلك أمر يقتضي بالضرورة التوقف عنده مليا، واستقصاء العوامل التي مكنتها من هذا الحضور، وكيف استطاعت أن تتحول من إطار صوفي روحاني إلى فاعل يمتلك القدرة على التأثير في مجريات النقاش العام، في تداخل لافت بين الرمزية الدينية والرهانات السياسية.

تاريخيا، لعبت الزوايا في المغرب أدوارا سياسية متباينة، تراوحت بين المعارضة الصريحة للمخزن في فترات النزاع والصراع حول الشرعية، وبين المولاة المطلقة حين تتقاطع مصالحها مع السلطة المركزية. فمنذ الدولة السعدية والدولة العلوية، عرفت الزوايا فترات قوة جعلتها أحيانا سلطة موازية في بعض مناطق “الإيالة الشريفة”، مستندة إلى نفوذها الروحي وشبكة مريديها الواسعة، وفترات تراجع حين تستبعد أو يحد من حركتها بفعل الصراع أو تغير موازين القوى. وفي القرنين التاسع عشر والعشرين، مع دخول الاستعمار، انخرطت بعض الزوايا في المقاومة المسلحة والثقافية، فيما فضلت أخرى التعاون مع سلطات الحماية، وهو ما أفرز تصنيفات لاحقة في الذاكرة السياسية المغربية بين زوايا “مجاهدة” وأخرى “عميلة” أو “خائنة”.

غير أن هذا المشهد تغير جذريا بعد الاستقلال، إذ تراجعت المكانة السياسية للزوايا وأَضحى حضورها يكاد ينحصر في ما تبقى لها من أدورا روحية واجتماعية، لصالح الأحزاب السياسية والمؤسسات الرسمية الحديثة، خاصة مع سياسة التحديث الإداري وتضييق مجال التأثير الاجتماعي غير الخاضع للرقابة. لكن هذا التراجع لم يكن نهائيا، إذ سرعان ما أعادت الدولة اكتشاف أهمية الزوايا، خاصة في مواجهة صعود الحركات الإسلامية ذات المرجعية السياسية أو الحركية. ففي تسعينيات القرن الماضي وبداية الألفية الثالثة، ومع تنامي الخطاب السلفي وتزايد خطر التطرف العنيف، في مقابل تراجع قدرة القوى الوطنية اليسارية على خلق التوازن السياسي المطلوب، وجدت الدولة في الزوايا، وعلى رأسها الزاوية البودشيشية، شريكا مناسبا لإعادة تشكيل المشهد الديني وتحصينه ضد التأويلات الراديكالية.

لذلك، أصبحت هذه الزاوية، التي تسوق لخطاب روحي مسالم يركز على تزكية النفس ونبذ العنف، نفسها في موقع مميز داخل هذه الاستراتيجية. وليس سرا أن ذلك تزامن مع صعود أحمد التوفيق، أحد مريديها، إلى منصب وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية سنة 2002، وهو منصب استراتيجي في تدبير الشأن الديني بالمغرب، حيث سمح له موقعه هذا بإعادة هيكلة الحقل الديني بهدف ضبط المجال، وتوحيد الخطاب، وترسيخ المرجعية الرسمية القائمة على إمارة المؤمنين والمذهب المالكي والعقيدة الأشعرية في طريقة الجنيد في التصوف. وفي نفس الوقت جعل الزاوية في قلب هذا التحول، باعتبارها نموذجا للتدين المنضبط الذي يجمع بين الطابع الروحي التقليدي والوظيفة السياسية غير المباشرة، وهو ما منحها حضورا متزايدا في الفضاء العمومي، وأضفى على أنشطتها بعدا يتجاوز المجال الديني الخالص ليشمل رهانات مرتبطة بالأمن الروحي، والتوازن الاجتماعي، وحتى الشرعية السياسية.

من هنا بدأ البعد السياسي لحضور الزاوية يتخذ ملامح أوضح، ليس فقط لأنها تحولت إلى محضن لعدد من أطر الدولة، وبشكل مفارق لأعضاء سابقين بأحزاب سياسية كانت حتى وقت قريب تنظر لمثل هذه الزوايا بأنها مجرد بقايا ماضي عتيق تجاوزه الزمن، ولا لأنها أصبحت قبلة لزعماء هذه الأحزاب طلبا لبركات شيخها أملا في أن تجود عليهم ببعض المكاسب الرمزية ولربما الانتخابية أيضا، وإنما أساسا لأنها برزت في أكثر من مناسبة كفاعل احتياطي ميداني في التعبئة حول قضايا ذات أولوية بالنسبة للدولة، كما حدث في مناسبتين بارزتين:

ـ أولاهما، سنة 2003 حين نظمت السلطات، بدعم من الزاوية وأتباعها، تظاهرة حاشدة ضد الإرهاب عقب أحداث الدار البيضاء، في رسالة مزدوجة للداخل والخارج مفادها أن المغرب يتبنى إسلاما وسطيا منفتحا ومناهضا للتطرف، وأن تعزيز المرجعية الصوفية المعتدلة يشكل أحد ركائز استراتيجيته الدينية الجديدة في مواجهة الفكر المتشدد.

ـ وثانيهما، سنة 2011 عندما خرجت الزاوية مرة أخرى إلى الشارع لدعوة المواطنين صراحة للتصويت بنعم على الدستور، في وقت كانت فيه حركة 20 فبراير والقوى المؤيدة لها تقود حملة تعبئة لحث المواطنين على التصويت بلا على دستور تقدر أنه لم يستجب لمطالبها.

وإذا كانت مثل هذه الوقائع قد كرست ارتباط الزاوية بالدولة وأجنداتها السياسية، بما يبرز تحولها إلى فاعل قادر على المساهمة في تحقيق أولويات السلطة، ويؤكد مكانتها الخاصة ضمن خارطة الإسلام الرسمي بالمغرب، فقد أخذت تبرز تساؤلات حول حدود الدور السياسي للزوايا، وهل يمثل ذلك عودة إلى الرهان الكلي على أنماط تقليدية في الحكم تستند أساسا إلى الشرعية الدينية والروحية بدل المؤسسات التمثيلية الحديثة.

فالتجربة التاريخية للمغرب تؤكد أن الزوايا، حين تتحول إلى أداة ضمن هندسة السلطة، تصبح جزءا من منظومة الضبط الاجتماعي والسياسي، الشيء الذي قد يحد من استقلاليتها الروحية ويجعلها أقرب إلى جهاز تعبئة منه إلى فضاء للتأمل والتربية الصوفية الخالصة. كما أن دمج الزوايا في السياسة الرسمية، وإن كان ليس بغير فاعلية في مواجهة التطرف، قد يعيد إنتاج نموذج ديني مغلق على نفسه، يفتقر إلى الدينامية النقدية والقدرة على التجديد الفقهي والفكري، خاصة في ظل تحييد أو إقصاء تيارات واتجاهات أخرى تمتح من نفس المرجعية يمكنها أن تقدم رؤية متنورة وحداثية للدين. هذا إن لم يصبح هذا النموذج هو نفسه أساسا لإنتاج أشكالا متطرفة للتعبير، حيث يعلمنا التاريخ المغربي القريب أن هيئات من هذا النوع تأسست برعاية من الدولة ونمت في أحضانها لكن ذلك لم يمنعها من أن تتحول إلى مشتل لتفريخ المتشددين.

بالطبع لا يمكن إغفال أن الحضور اللافت للزاوية البودشيشية يجسد جانبا من السياسة الدينية للدولة المغربية، القائمة على مزيج من المرجعية الملكية وتوظيف الطرق الصوفية كأداة لترسيخ الاعتدال الديني وإبراز صورة التنوع داخل المشهد الإسلامي. غير أن هذا “الزواج” بين الحكم والزاوية، وإن وفر لها حماية وشرعية، فإنه في الآن ذاته وضعها في موقع ملتبس، إذ تصبح مهددة بفقدان جزء من رصيدها الروحي لصالح أدوار سياسية غير معلنة. فبدل أن ينظر إليها باعتبارها إطارا روحانيا مستقلا، أخذت تتحول تدريجيا في أعين منتقديها، ولربما حتى بعض مريديها، إلى مجرد امتداد لبنية التحكم السياسي، سيما عندما يكون حضور هذا النوع من الممارسات الرمزية والشعبية في قلب السياسة الدينية للدولة هو نفسه يثير مفارقات جوهرية بين خطاب رسمي يسوق للحداثة، وممارسة فعلية تكرس أنماطا تقليدية من التدين تعيد إنتاج عادات التبعية. وما تنامي الحديث إعلاميا، خلال سياق تدبير خلافة ما بعد شيخها السابق، حول تدخل محتمل للدولة، أو على الأصح لوزير الأوقاف والشؤون الإسلامية، في ترتيب هذه الخلافة، إلا تأكيد لهذا المنحى، وتعزيز للانطباع بكون استقلالية الزاوية باتت نسبية أكثر مما هو معلن. والحال أن استمرارها في لعب دور مهم وإيجابي داخل الحقل الديني يظل رهينا بقدرتها على الحفاظ على توازن دقيق بين ولائها للدولة واستقلاليتها الرمزية، وبين انخراطها في قضايا المجتمع وتفادي الانجرار إلى منطق الاصطفاف السياسي الضيق الذي قد يفقدها ما تبقى من شرعية معنوية.

هكذا، فإن ما شاهدناه خلال الأيام القليلة الماضية، إذا كان يفرض القول إن الزاوية البودشيشية تمثل اليوم نموذجا على عودة الزوايا إلى واجهة المشهد، ليس فقط بوصفها موروثا ثقافيا وروحيا، بل كفاعل ضمن هندسة للحقل الديني والسياسي تقوم على أساس إعادة تفعيل أدوات تقليدية لضبط المجال الديني في مواجهة تحديات العصر، فإن هذا المسار يبقى محفوفا بمخاطر الخلط بين الدين والسياسة. فالبعد السياسي في عملها قد “يأكل” الدولة على المدى البعيد، إذ يوفر أرضية دينية وطقوسية قابلة للاستثمار بطرق متعددة، ولا أحد يمكنه التنبؤ بكيفية توظيفها في المستقبل. وفي الوقت نفسه، قد “يأكل” الزاوية نفسها، حيث دخولها في لعبة سياسية يجعلها عرضة للاستغلال أو التوظيف السياسي المباشر، وربما تتجاوز قدرة أتباعها على ضبط هذا الانزلاق. كما أنه قد يشكل عبئا على المجتمع وقواه، التي تنشد التقدم وتتطلع إلى تجاوز الممارسات التقليدية القريبة من الغيبية، وتطمح بشكل أكبر إلى تكريس رؤية عقلانية ومنفتحة للدين. هذا علاوة على أنه يشكل مزيدا من إقبار كل إمكانية لميلاد مشروع ديمقراطي ظل لسنوات يعيش عسر الولادة، بما أنه يفترض فيه أن يقوم على مؤسسات سياسية قوية، وفصل حقيقي بين السلطات، وضمان مشاركة فعالة للمواطنين، واحترام للحقوق والحريات.

في السابق، توصل بعض الباحثين إلى أن الأحزاب المغربية، التي يفترض فيها أنها أساسا كل نظام ديمقراطي، لا تختلف جوهريا عن الزوايا من حيث بنيتها الداخلية وطريقة عملها. واليوم، يمكن القول إن الأمر أخذ مسارا معاكسا، إذ يبدو أن بعض الزوايا قد تحولت إلى أحزاب سياسية قادرة على الفعل في الحقل السياسي بطرق منظمة مسلحة في ذلك بما تتمتع به من هبات وعطايا مادية ورمزية وسياسية مصدرها الدولة. وهذا التحول، بدمج البنية الدينية التقليدية بالآليات السياسية المعاصرة، يطرح خطرا على المشروع الديمقراطي المنشود، إذ يمكن أن تستثمر هذه الهياكل في تضييق الفضاء السياسي أو في إنتاج تبعيات رمزية تخدم مصالح محددة على حساب قيم المواطنة والمساواة والتمثيل الفعلي.

* أحمد بوز، أستاذ علم السياسة والقانون الدستوري (كلية الحقوق السويسي بالرباط).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *