ثورة ملك وشعب

يحتفي الشعب المغربي قاطبة، بالذكرى 72 لملحمة ثورة الملك والشعب، التي شكلت محطة مفصلية في معركة التحرير الوطني، ومنعرجا أخيرا في اتجاه إدراك الحرية وبلوغ الاستقلال، بعد سنوات عجاف من الاستعمار الظالم، وما رافقه من استغلال بشع وإجرام وحشي ومؤامرات ظالمة؛
ثورة مجيدة اشتعلت شرارتها الأولى في 20 غشت 1953 ، لما أقدمت سلطات الحماية الفرنسية على تنفيذ مؤامرة نفي السلطان محمد بن يوسف خارج الوطن، واستعجال تنصيب سلطان بديل مكانه، في محاولة مكشوفة منها، لضرب الثوابت والرموز الوطنية، وتفكيك خيوط العروة الوثقى بين الملك والشعب، لكن وخلافا لما كانت تشتهيه سفينة الاستعمار، رفع المغاربة قاطبة، من منسوب المقاومة والنضال، مدفوعين بقيمهم الوطنية والدينية، ومستندين إلى ما يجمعهم بالسلطان الشرعي محمد بن يوسف، من مشاعر الحب والإخلاص والوفاء المتبادل، وتحت ضغط النضال الذي اتخذ أبعادا ومستويات متعددة الزوايا، اضطرت فرنسا إلى السماح بعودة السلطان من المنفى، والدخول في مفاوضات، عجلت بحصول المغرب على الاستقلال؛
ثورة 20 غشت، لم تكن فقط، محطة مفصلية في معركة النضال والتحرير الوطني، بل كانت علاوة على ذلك، ملحمة نضالية وطنية، عجلت بحصول المغرب على نعمة الحرية والاستقلال، وما كان لهذه الثورة، أن تحقق أهدافها ومقاصدها، لولا وجود “وطنيين حقيقيين”، كانت قوتهم، في وحدتهم وتماسكهم، ومناعتهم في تضحيتهم اللامشروطة من أجل الوطن، وشطارتهم النضالية، في ارتباطهم الوثيق بالقيم والثوابت الوطنية والدينية، و”ملك مجاهد”، لم يتردد في الدفاع عن وحدة المغرب واستقلاله في عدد من المحطات التاريخية، واختار المنفى، بدل الرضوخ للاستعمار، والتطبيع مع مخططاته ومؤامراته الظالمة، الماسة بوحدة الوطن وسيادته؛
واليوم، وبين الماضي المشرق والحاضر المقلق، فقد المغاربة روح ثورة الملك والشعب التي عجلت بدق أجراس الاستقلال، وطلقوا طلاقا رجعيا قيم المسيرة الخضراء وقسمها الخالد، في سياق سياسي وسوسيوثقافي واقتصادي، ذاب فيه جليد الوطنية الحقة، تحت أشعة الأنانية المفرطة، وما يجاورها من جشع وطمع وانتهازية ووصولية وعبث وانحطاط، وبرزت على السطح، قيم جديدة، غير التي أحرجت الاستعمار وأخرجته صغيرا مهانا، وغير التي نسجت خيوط ملحمة المسيرة الخضراء المظفرة، بدون عنف أو سلاح، سوى القرآن الكريم وإيمان المتطوعين؛
رحل الوطنيون ورجالات الدولة البارزين، ممن رصعوا قلادة الوطن، وضحوا بالغالي والنفيس، دفاعا عن الحرية والاستقلال، ودعما لحق المغرب المستقل، في البناء والنماء والازدهار، وبرز بالمقابل، جيل جديد من الزعماء والمسؤولين، تنكروا لقيم الآباء والأجداد، وتنكروا معها لكل ما تحمله المغاربة قاطبة من محن وأعباء ومتاعب، دفاعا عن وحدة الأرض وسلامة التراب، وبنوا بعبثهم وأنانيتهم وقلة حيائهم، علاقات جديدة مع الوطن، مبنية على ممارسات الجشع والطمع والانتهازية والوصولية والنهب والسلب والاستقواء والاستعلاء، في غياب إرادة حقيقية، لتحييد الفساد بكل تمظهراته، وإشهار حقيقي لسيف “ربط المسؤولية بالمحاسبة”، في وجه كل عابث أو جاشع أو انتهازي أو وصولي، يقسو على الوطن، ويحرمه من فرص النهوض والريادة والإشعاع؛
ما بتنا نعيشه اليوم من خطاب سياسي بئيس، ومن شيوع لثقافة التحكم والاستقواء والاستعلاء، ومن تحكم مقلق في المشهد التشريعي، وتحول السياسة إلى رهينة في يد الأنانيين والانتهازيين والوصوليين من السياسيين، ومن شبهات فساد مقوية للنفور السياسي والعزوف الانتخابي، ومكرسة للإحساس الفردي والجماعي بفقدان الثقة في الدولة والقانون والمؤسسات، هي صور من ضمن أخــــرى، تدل بما لا يدع مجالا للشك، أن مغرب اليوم يحتاج أكثر من أي وقت مضى، إلى ثورة ملك وشعب جديدة، تحــرر الوطن، من جبروت العابثين والفاسدين؛
ملاحم البطولة التي نسج خيوطها الآباء والأجداد في ثورة 20 غشت وغيرها من المحطات النضالية التاريخية، وحجم المحن والمتاعب والأعباء التي تحملها المغاربة في معركة النضال والتحرير، ومتانة المشاريع التنموية الرائدة والمبادرات الاستراتيجية التي أطلق عنانها الملك محمد السادس، والرهانات المرتبطة بالتنمية المجالية، التي أعلن عنها جلالته في خطاب العرش الأخير، والتحديات المرتبطة بالوحدة الترابية للمملكة، وبتنظيم العرس الكروي الأكبر في العالم، وشبهات الفساد التي باتت تخيم بشكل مقلق ومؤسف، على المشهد السياسي، وما يكرسه ذلك، من فقدان الثقة في الدولة والقانون والمؤسسات، واتساع دائرة الفقر والهشاشة والإقصاء الاجتماعي …، هي اعتبارات من ضمن أخرى، تفرض استلهام روح وقيم ثورة 20 غشت التي عجلت بالاستقلال، كما تفرض أن يتحمل الجميع مسؤولياته أمام الوطن، بتهذيب السلوك وإعادة الاعتبار للقيم والثوابت الوطنية والدينية، ومحاصرة الفساد والمفسدين، واستحضار المصالح العليا للوطن وقضاياه المصيرية، بعيدا عن العنتريات والحسابات والولاءات والأفكار الهدامة؛
ثورة 20 غشت الخالدة، وما تحمله من قيم ودروس ودلالات وعبر ، لا يمكن البتة، أن تنحصر في حدود الاحتفاء، واستحضار الجوانب المشرقة في الذاكرة النضالية الوطنية، بل لابد أن تكون موعدا سنويا، لتجديد القيم الوطنية والدينية، وتمتين ما يجمع العرش بالشعب، من روابط البيعة والولاء والإخلاص والوفاء، والالتفاف الفردي والجماعي حول الوطن، واستحضار ما يواجهه من رهانات وتحديات، واستشعار ما يتهدده من مخاطر خارجية وداخلية على حد سواء ؛
ثورة 20 غشت، تقتضي أن نتملك جميعا روحها وقيمها الخالدة، لكسب الرهانات والتحديات، وهذا المسعى يستوجب، استعجال تطهير الوطن وتحصينه، عبر تحييد الفاسدين والعابثين ومنعدمي الضمير، ممن يصنعون اليأس وينتجون مشاهد الفقر والبؤس والإقصاء الاجتماعي، ويكرسون بقلة حيائهم، الإحساس العام بانعدام الثقة في الدولة والقانون والمؤسسات، والانفتاح على جيل جديد من المسؤولين، المشهود لهم بالنزاهة والخبرة والكفاءة والالتزام أمام الوطن، ممن لهم القدرة على صناعة الأمل بدل اليأس، والانخراط المواطن، فيما يقوده عاهل البلاد، من مشاريع تنموية رائدة، ومن مبادرات استراتيجية، تضع المغرب على سكة البلدان والأمم الصاعدة، في إطار ثورة جديدة للملك والشعب، وحدها تكفي لتحرير الوطن وتحصينه وتنميته وازدهاره وإشعاعه …
اترك تعليقاً