المسيرة الخضراء في فكر جلالة الملك محمد السادس: عهد متجدد للوحدة والتنمية
قراءة في الخطابات الملكية بمناسبة المسيرة الخضراء منذ سنة 1999 إلى الآن

منذ اعتلاء جلالة الملك محمد السادس نصره الله عرش المملكة سنة 1999، شكلت خطابات المسيرة الخضراء مرآة صادقة لتحولات المغرب في رؤيته لقضية الصحراء ولموقعه الإقليمي والدولي. فمن خلال خمسةٍ وعشرين خطاباً ألقاها جلالته بهذه المناسبة، تتبلور معالم استراتيجية ملكية متكاملة جعلت من المسيرة الخضراء ليس فقط حدثاً تاريخياً، بل مدرسة في تدبير القضايا الوطنية بروح سلمية وواقعية، قوامها العمل الميداني والدبلوماسية الهادئة والتنمية الشاملة. فقد تحول الخطاب الملكي في هذه الذكرى من مجرد تخليد رمزي لملحمة وطنية إلى محطة سنوية لتقييم الإنجازات واستشراف المستقبل، حيث يجدد جلالته العهد مع الشعب المغربي على صون الوحدة الوطنية وتعزيز التنمية في أقاليمنا الجنوبية.
في السنوات الأولى من العهد الجديد، ركزت الخطابات على تثبيت مبدأ الخيار السلمي كقيمة ثابتة في السياسة المغربية، وعلى الدعوة إلى تجاوز منطق المواجهة نحو منطق البناء والتنمية. وقد أكد جلالته مراراً أن المسيرة الخضراء كانت مثالاً في الحكمة السياسية، إذ جمعت بين الإيمان والذكاء الجماعي والإرادة الوطنية، مما يجعلها نموذجاً لحل النزاعات بطريقة سلمية. ومع بداية العقد الثاني للألفية، تحوّل الخطاب إلى مرحلة جديدة، أبرزها طرح مبادرة الحكم الذاتي سنة 2007 التي وصفها جلالة الملك بأنها “أقصى ما يمكن أن يقدمه المغرب” في إطار التفاوض. هذا المشروع لم يكن مجرد مقترح سياسي، بل تجسيد لرؤية ملكية تقوم على الاعتراف بالتعدد المحلي ضمن وحدة الدولة، وتؤسس لحكم جهوي متقدم يعكس روح المشاركة والديمقراطية الترابية.
وقد شكل هذا التحول منعطفاً في التعاطي الدولي مع الملف، إذ استطاعت الدبلوماسية المغربية تحت القيادة الملكية أن تنقل القضية من خانة النزاع الإقليمي إلى خانة الحلول الواقعية التي تحظى بدعم متزايد. فقد اعترف عدد من الدول الكبرى بوجاهة المبادرة المغربية واعتبروها أساساً جدياً وواقعياً، وهو ما تُوج باعتراف الولايات المتحدة الأمريكية سنة 2020 بسيادة المغرب على أقاليمه الجنوبية، تلاه فتح تمثيليات دبلوماسية متعددة في مدينتي العيون والداخلة من قبل دول عربية وإفريقية وأمريكية لاتينية. هذه التحولات الدولية، التي رافقها حضور متنامٍ للمغرب داخل الاتحاد الإفريقي والأمم المتحدة، تعكس نجاح الرؤية الملكية التي تقوم على الدمج بين الشرعية التاريخية والمشروعية التنموية والدبلوماسية الاستباقية.
أما على الصعيد الداخلي، فقد كانت خطابات المسيرة الخضراء مرجعاً لإطلاق مشاريع تنموية كبرى بالأقاليم الجنوبية، أبرزها النموذج التنموي للأقاليم الجنوبية الذي أطلق سنة 2015، والذي يهدف إلى جعل هذه الأقاليم قطباً استراتيجياً بين المغرب وإفريقيا جنوب الصحراء. فكل خطاب ملكي تقريباً كان يتضمن توجيهات عملية تخص البنية التحتية، الطاقة، التعليم، الاستثمار، والاهتمام بالعنصر البشري باعتباره أساس التنمية المستدامة. وبهذا المعنى، تجاوزت المسيرة الخضراء بعدها الرمزي لتصبح مشروعاً مفتوحاً لتعمير الصحراء وتنميتها وتثبيت السيادة الفعلية للمغرب على كامل ترابه عبر العمل الملموس.
وفي ما يتعلق بعلاقة المغرب مع الجزائر، فقد تميزت الخطابات الملكية بثبات في المبدأ ومرونة في الأسلوب. فمن جهة، يحرص جلالته على تجديد الدعوة إلى فتح الحدود واستعادة العلاقات الطبيعية بين الشعبين الشقيقين على أساس الاحترام المتبادل وحسن الجوار، ومن جهة أخرى يصرّ على أن قضية الصحراء ليست مطروحة للتفاوض حول سيادة المغرب، بل على إيجاد حل في إطار وحدته الترابية. هذه الازدواجية الذكية بين الصرامة في الدفاع عن الثوابت والانفتاح في الطرح الدبلوماسي تؤكد أن المغرب لا يسعى إلى التصعيد، بل إلى شراكة إقليمية تسهم في استقرار المنطقة وتنميتها. غير أن تعنّت الجار الشرقي ومساندته للانفصال حال دون ذلك، وهو ما جعل الخطاب الملكي في السنوات الأخيرة يميل إلى التركيز على بناء التحالفات الدولية وتثمين علاقات التعاون جنوب–جنوب بديلاً عن الرهان على حسن النية من الجانب الجزائري.
من الناحية الخطابية والدلالية، يظل استحضار الآيات القرآنية في كل خطاب ملكي عن المسيرة الخضراء دلالة عميقة على البعد الأخلاقي والروحي الذي يطبع هذه القضية. فقد استشهد جلالته في مناسبات عدة بآيات تتحدث عن الوفاء بالعهد، وعن الصبر والثبات، وعن فضل السعي في الأرض وعمارتها، وهي إشارات تربط بين واجب الدفاع عن الوطن وبين قيم الإيمان والعدل التي تأسس عليها الوجدان المغربي. بهذه الإشارات، يقدم الخطاب الملكي نفسه كامتداد للرسالة الروحية التي جمعت المغاربة عبر التاريخ، والتي تجعل من وحدة الأرض امتداداً لوحدة العقيدة والهوية.
وبينما نستشرف الخطاب الملكي القادم في الذكرى الخمسين للمسيرة الخضراء في نونبر 2025، يمكن توقع أن يحمل دعوة إلى مرحلة جديدة عنوانها تثمين المنجزات واستشراف المستقبل، بإطلاق دينامية جديدة للحكم الذاتي وتوسيع قاعدة المشاركة السياسية والتنموية في الأقاليم الجنوبية. فبعد نصف قرن من المسيرة، أصبحت قضية الصحراء عنواناً للريادة المغربية في محيطها الإقليمي، كما أصبحت خطابات جلالة الملك مدرسة في فنّ القيادة الهادئة التي تجمع بين الإيمان بالمبادئ والقدرة على التكيّف مع التحولات. إن الرسالة العميقة التي تكررت على مدى ربع قرن يمكن اختزالها في عبارة واحدة: أن وحدة المغرب ليست شعاراً دفاعياً بل مشروع حضاري يربط الماضي بالمستقبل، وأن المسيرة الخضراء لم تنتهِ سنة 1975، بل ما زالت مستمرة في كل خطوة تنموية، وفي كل مبادرة إصلاحية، وفي كل خطاب ملكي يجدد عهد الوفاء بين الملك وشعبه.
اترك تعليقاً