وجهة نظر

عقدة العداء .. هل تنجح الوساطة السعودية؟

منذ عقودٍ طويلة، والعلاقات المغربية الجزائرية تشبه رقصةً على لحنٍ واحدٍ لا يتغير: خطوةٌ للأمام، وتراجعٌ مزدوج إلى الخلف. ومع كل مبادرة عربية أو أممية ترمي إلى رأب الصدع بين الجارين، يتجدّد السؤال القديم من تحت رماد السياسة: هل يمكن لأي وساطة أن تُثمر، إذا كان أصل الأزمة في “العقلية” لا في “الملف السياسي”؟

إن دخول المملكة العربية السعودية على خط الوساطة، بما تمتلكه من ثقلٍ دبلوماسي واتزانٍ سياسي، أعاد فتح النقاش حول طبيعة النظام السياسي الجزائري، الذي يبدو وكأنه يصرّ على العيش في حالة إنكارٍ مزمنةٍ لكل منطقٍ سياسيٍ واقعي. فهل يمكن لمن تربّى على “عقيدة العداء للمغرب” واعتباره “العدو الكلاسيكي” أن يتخلى عن هذه البنية الذهنية، مهما بلغت الوساطة من حكمةٍ وحنكة؟

من هنا تنبثق أطروحتنا المركزية: إن الأزمة ليست سياسيةً محضة، بل هي بنيويةٌ نفسيةٌ وفكريةٌ بالأساس؛ إذ نشأ صانع القرار الجزائري على وهمٍ مفاده أن بقاءه في السلطة رهينٌ بوجود عدوٍّ خارجي اسمه “المغرب”.

العداء كعقيدة تأسيسية في الدبلوماسية الجزائرية

منذ استقلال الجزائر سنة 1962، لم تُبنَ سياستها الخارجية على رؤيةٍ تنمويةٍ واضحة أو مشروعٍ حقيقيٍّ للاندماج المغاربي، بل تأسّست على رصيدٍ ثقيل من العداء الرمزي تجاه المغرب.

إن قراءةً متأنية للخطاب الرسمي الجزائري، من عهد هواري بومدين إلى عهد عبد المجيد تبون، تكشف عن ثباتٍ شبه مرضي في تمثّل المغرب بوصفه خصمًا أزليًا. فالدبلوماسية الجزائرية لا تتحرك ضمن منطق المصالح المتوازنة كما هو الحال في الدول الحديثة، ولكنها تنبع من نفسية الثورة القديمة التي لم تستوعب بعد تحوّل الثورة إلى دولة.

لقد انزلق المفهوم الجزائري للثورة من فعلٍ تحرري نبيل إلى قناعٍ أيديولوجيٍ سميك، تُبرَّر من خلاله الإخفاقات الداخلية بتصدير الأزمة إلى الخارج. وكلما تعثّر الاقتصاد، أو ارتفع منسوب الاحتقان الشعبي، أو انكشف ضعف الأداء السياسي، يُستدعى شبح المؤامرة المغربية لتبرير الفشل.

وفي هذا السياق، تحوّلت قضية الصحراء المغربية إلى رئةٍ يتنفّس منها النظام الجزائري كلما ضاق به الأفق. فلم يعد العداء للمغرب خيارًا تكتيكيًا، بل صار هوية سياسية تضمن للنظام إعادة إنتاج شرعيته داخليًا عبر اختراع عدو خارجي دائم.

الوساطة السعودية بين حكمة الواقع وعناد الذهنية المغلقة

تتحرّك الدبلوماسية السعودية اليوم برؤيةٍ هادئةٍ وواقعية، تسعى من خلالها إلى رأب الصدع بين المغرب والجزائر، إيمانًا بأن أي مشروع لوحدة الصف العربي لن يكتمل في ظل انقسامٍ مغاربيٍ مزمن في ظل قضية باتت تمسّ البنية السياسية الإقليمية بأكملها.

غير أن هذا المسعى النبيل من المملكة العربية السعودية، يصطدم بجدارٍ من الذهنية المتصلبة في الجزائر. ففي الوقت الذي يمد فيه المغرب يده مرارًا، عبر مبادراتٍ صادقةٍ للحوار والانفتاح، تردّ الجزائر بسياسة الأبواب المغلقة، وبإعادة تدوير الخطاب القديم نفسه عن “المؤامرة” و”العدو الكلاسيكي”.

إن العقل السياسي في قصر المرادية لا يتعامل مع الدبلوماسية باعتبارها أداةً للبناء والتقارب، فهو يوظفها كآليةٍ لإنتاج التوازن عبر الصدام. وهنا تكمن المفارقة العميقة: كيف لوساطةٍ عقلانيةٍ أن تنجح مع نظامٍ يقرأ السياسة بعين العناد لا بعين المصلحة؟

تحاول الرياض إحياء قيم الأخوّة، وتوسيع مجالات التعاون عربي–عربي، وفتح آفاقٍ اقتصاديةٍ مشتركة. لكن الجزائر تنظر إلى كل تقاربٍ مغربي–سعودي بوصفه تهديدًا لنفوذها الإقليمي، وترى في كل مبادرةٍ عربية خطوةً لترسيخ انتصار الرباط. إنها عقلية لا تؤمن بمنطق الربح المشترك، لأنها تقوم بكل بساطة على معادلةٍ صفرية: “أن لا تربح أنت… لكي لا أخسر أنا”.

المغرب والعقل الاستراتيجي مقابل الجزائر والعقل الانفعالي

تقوم السياسة الخارجية المغربية على تراكمٍ مؤسساتيٍ هادئ، يوازن بين الشرعية الدولية والمصالح الوطنية، ما جعل الرباط لاعبًا ثابتًا في مشهدٍ إقليمي متقلب. فهي تبني مواقفها بتأنٍ استراتيجي، وتستند إلى رؤيةٍ واضحةٍ قوامها تعزيز القوة الذاتية لا تقويض الآخرين.

في المقابل، تتغذى السياسة الخارجية الجزائرية من خطابٍ انفعاليٍ عابر، يستحضر حرارة الثورة أكثر مما يستند إلى عقل الدولة. وهنا تتجلّى الفوارق الجوهرية بين نهجين: نهجٍ يَستثمر في بناء المستقبل، ونهجٍ يَستنزف طاقته في إضعاف الجار.

ومن منظور علم السياسة، حين تُختزل الهوية الوطنية في نفي الآخر، تصبح الدولة أسيرة عدميةٍ سياسية، تفقد معها القدرة على إنتاج رؤيةٍ مشتركة للمستقبل. فالعقل السياسي الانفعالي لن ينتج سوى الأزمات في دوامةٍ لا تنتهي.

لذلك، فإن أي وساطة – بما فيها الوساطة السعودية – لن تنجح إلا إذا تحوّل العقل السياسي في قصر المرادية من منطق “العداوة الوجودية” إلى منطق “المصلحة المشتركة”. وحتى لو افترضنا أن الوساطة نجحت، فإن نجاحها سيكون هشًا وشكليًا، لأن البنية الذهنية الحاكمة في الجزائر متصلّبة، تقوم على إرثٍ عميق مبني على عقيدة العداء التاريخي للمغرب.

إنها أزمةٌ نفسية متجذّرة في عمق القرار السياسي الجزائري، تجعل كل مبادرةٍ للصلح أشبه بمحاولة زرع الورد في تربةٍ قاحلة ترفض المطر. أزمةٌ لا تُحل بالتصريحات الدبلوماسية وحدها، وإنما تتطلّب تغييرًا عميقًا في طريقة التفكير.

في الختام .. لا شك أن الوساطة السعودية تمثل مبادرةً نبيلة تنبع من رغبةٍ صادقة في رأب الصدع المغاربي، غير أنها تصطدم بمعضلةٍ نفسية قبل أن تكون سياسية. فلا سلام يمكن أن يزدهر ما دام قصر المرادية يرى في كل تقاربٍ تهديدًا، وفي كل حوارٍ فخًا، وفي كل تعاونٍ استسلامًا.

ستواصل المملكة العربية السعودية، بحكمتها وحنكتها الدبلوماسية، مدّ الجسور، لكن العبور يتطلب ضفتين مستعدتين. وضفة الجزائر ما زالت تفضّل الدوران في دوائر الشك والعداء، بدل الانفتاح على منطق المصلحة المشتركة.

أما المغرب، فسيستمر في نهجه الواقعي القائم على احترام السيادة وبناء الشراكات الاستراتيجية، مؤمنًا بأن التاريخ لا يكرم من يجعل العداء عقيدته، وإنما يخلّد من يحسن الفعل ويقرأ الواقع بعين العقل لا الانفعال. ومن جعل العداء فلسفة حكمه، حكم على نفسه ووطنه بالبقاء في هامش الزمن.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *