وجهة نظر

وانتهت “نكتة الانتخابات الفولكلورية ” على الطريقة الفرعونية لـ”شرعنة” الاستبداد

“يا مصر .. إن القوم تجار سوء” !!

 

بعد سبع سنوات على انبهار مخيلة العالم بانتفاضة شعبية بدت وكأنها نهاية لستة عقود من الحكم العسكري، لا تزال مصر عالقة في مخالب الاستبداد، إذ تؤكد انتخابات هذا الأسبوع عودة السيسي رئيسا آخر من المؤسسة العسكرية، ليسوق نفسه ببدلة مدنية كمنارة للاستقرار في منطقة شرق أوسطية هشة قابلة للاشتعال، بحيث إنتهت يوم امس فصول مسرحية انتخابات رئاسية تراها المعارضة ومؤسسات غربية صورية لإضفاء الشرعية على حكم الرئيس العسكري عبد الفتاح السيسي، وهي الثانية من نوعها منذ انقلابه على الرئيس المعزول محمد مرسي صيف عام 2013

انتخابات مصر، عملية منافسة بين الرئيس عبد الفتاح ونفسه

إذ تحوّلت الانتخابات الرئاسية المصرية التي جرت هذا الأسبوع إلى ما يشبه المسرحية الهزلية؛ بعدما طغت مظاهر الرقص والغناء والمكايدة على عملية سياسية يُفترض أنها تتعلّق بمصير “أم الدنيا”، البلد الهرم المريض، يرى كثيرون أنه يقف بالفعل على شفا الخطر، لا قدر الله.

صحيح أن المصريين -ومعهم كثيرون حول العالم- كانوا يتعاملون مع الانتخابات الرئاسية التي جرت بين 26 و28 مارس الجاري، بوصفها عملية منافسة بين الرئيس عبد الفتاح ونفسه، إلا أن ما حدث خلال التصويت كشف عن أزمة كبيرة؛ تمثّلت في أن “من كذبوا الكذبة كانوا أكثر من صدّقها”.

وكانت القناعة المحلية والدولية بأنه لا توجد انتخابات فعليّة في مصر و غيرها من دولنا العربية، وأن ما يجري لا يعدو أن يكون إجراءً شكلياً لشرعنة بقاء السيسي في السلطة التي وصل إليها بعدما قاد انقلاباً في 2013، أطاح فيه بمحمد مرسي، الذي فاز بأول انتخابات نزيهة بعد ثورة 25 يناير 2011، التي أنهت 30 عاماً قضاها الرئيس العسكري المخلوع، حسني مبارك، في قصر الرئاسة.

ولم يتوقف الأمر عند حدّ الاستخفاف بأصوات المواطنين وحقهم الدستوري في منافسة انتخابية حرة يخوضها كل من تنطبق عليه شروط الترشّح، بل تجاوز ذلك إلى تصميم السلطة على تسويق فكرة أن من قاطعوا الانتخابات لم يقاطعوا؛ عبر الادّعاء بأن أكثر من 21 مليوناً صوّتوا للسيسي من بين 25 مليوناً شاركوا في التصويت.

مسرحية هزلية حشد لها الجيش والشرطة عصا التهديد وجزرة الوعيد

عملية التزوير التي حشد الجيش والشرطة قواتهما لمواكبتها و التي استمرت ثلاثة أيام، جعل أمريكا، الدلة العظمى و المساندة للسيسي، تدعو رعاياها في مصر إلى توخي الحذر خلال تلك المدة، معتبرة الحدث “انتخابات صورية تجرى على خلفية انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان”.

لا ننسى أن منافس السيسي الوحيد، أو ما يسمى بالأرنب في مثل هكذا انتخابات هو موسى مصطفى موسى، وهو مؤيد للسيسي منذ فترة طويلة، وينظر إليه على نطاق واسع على أنه مرشح صوري، وحزب الغد-الذي يرأسه موسى نفسه- أيد السيسي بالفعل لولاية ثانية قبل أن يظهر موسى منافسا في اللحظات الأخيرة. كما غاب عن المنافسة سياسيون بارزون لأسباب متعلقة بالمشهد السياسي والقانوني المتوارث في البلاد، منذ عقود.

ومن فصول هذه المسرحية الهزلية “عصا التهديد وجزرة الوعود” انضافت أصناف غير مسبوقة من النفاق السياسي، فالمنافس المفترض، موسى مصطفى موسى، صرح انه حين سينتخب رئيساً (!) سيسأل السيسي عمن سيرأس الحكومة، فيما قام إعلاميون وفنانون بأشكال معيبة في العرف و الدين من إهانة الذات لتمجيد السيسي (!)، رغم ذلك عرائس القراقوز “الاسلامية” على تنوعها كحزب الزور (النور)، تنعق مع الخائضين كالاطرش في الزفة.

ويبدو أن الجوّ السورياليّ للانتخابات الرئاسية المصرية قد فرض نفسه حتى على وفد الكونغرس الأمريكي ومجموعة من المراقبين الأجانب الموجودين في مصر “لمراقبة الانتخابات الرئاسية”، حيث ظهرت صور لأعضاء من الوفد والمراقبين يتناولون «الفطير المشلتت» المصري والجبن البلدي، ويدخنون الشيشة ويرقصون (!)

«الـبيعة الإلزامية» إفراغ للخزان و تطفيف للميزان وضحك على الاذقان

يجري كل ذلك في بلد مسلم باسم «انتخابات حرة» مزعومة رغم أن القضية برمّتها هي بيعة إلزامية لقائد عسكريّ ـ أمنيّ انقضّ على السلطة الديمقراطية المنتخبة تحت أنظار العالم و بمباركة قادتها و مساعدتهم له.

فمن حق شعب مصر وغلابة العالم العربي أن يتساءلون اليوم و كل يوم، عن “ما الداعي إذن لكل هذه الهيصة أي «الحملات الانتخابية» والصور العملاقة التي ملأت شوارع مصر وأفرغت خزائنها وفقرت شعبها، في الوقت الذي قوّض السيسي أي إمكانية لمنافسة حقيقية لعرشه مع إقصاء أحمد شفيق وسامي عنان وعبد المنعم أبو الفتوح وتوجيه الاتهامات الثقيلة لهم، ثم استقالة خالد علي وعزوف حمدين صباحي (المرشح لانتخابات 2014) المبكر؟

الأنباء الواردة من مصر تشير اليوم إلى أنه رغم أساليب التهديد والوعود، وتحشيد التلاميذ ومديح النساء، ونفاق المنافقين وغثاثة المراقبين، وتواطؤ العالم، فإن عدد الناخبين وصل إلى حدود 7 إلى 10 بالمئة حسب إحصائيات دولية، وهو ما يعد استفتاء معكوساً وبيعة منكوسة لرئيس «القوة الغاشمة» الذي ألقى بكلكله على الشعب المصري المنهوب المنكوب، على حد تعبير أحد رموز الاخوان في أوروبا.

غاردز الامريكي:”انتخابات مصر جرت في مناخ قمعي.. وتقدم أدلة مفزعة على مستقبل البلاد”

وقد علق ديفد غاردنر – في مقاله بصحيفة فايننشال تايمز- على انتخابات مصر بأنها تجري في مناخ قمعي وتقدم أدلة مفزعة على مستقبلها، وأن الانتخابات كانت مناورة محبطة و ليست منافسة سياسية شريفة بل حملة تسويقية،.

وأضاف أن الجيش في عهد السيسي عاد لترسيخ سلطته وحاز على امتيازات كبيرة ووسع إمبراطوريته التجارية المترامية

وهكذا أعاد السيسي -وفق الكاتب- تشكيل النموذج الذي شوه السياسة المصرية والعربية منذ أن تقلد “الضباط الأحرار” وجمال عبد الناصر السلطة عام 1952، الذي تمثل في الجيش ضد “الإسلام السياسي” أو العسكر مقابل العمائم، دون أي شيء بينهما تقريبا، على حد تعبيره.

“فلعمرك – يا مصر ” قالتها « جمعية علماء الجزائر » منذ 65 سنة

وللتاريخ نقول أن در لقمان لازالت على حالها، منذ عهد عبد الناصر، يوم رفعت عقيرتها الجزائر و هي تحت نير الاستعمار، عن طريق جريدة “البصائر” لسان حال جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، لتقف مع مصر و شعب مصر وقضية استقلال مصر في سنوات 1951-1952 و هي في أوج فورانها للتخلص من المستعمر البريطاني، بل ويصدر رئيس تحرير البصائر يومها العلامة البشير الإبراهيمي عدداً خاصاً من البصائر عن مصر ونضالها و محنتها افتتح العدد بمقالة تبين حكمته و علمه، جاء فيها، قوله رحمه الله: “فلعمرك – يا مصر – إنهم لم يقاتلوك بالحديد والنار، إلا ساعة من النهار؛ ثم بالكتاب الذي يزرع الشك، وبالعلم الذي يمرض اليقين، وبالصحيفة التي تنشر الرذيلة، وبالقلم الذي يزين الفاحشة، وبالبغي التي تخرب البيت، وبالحشيش الذي يهدم الصحة، وبالممثلة التي تمثل الفجور، وبالراقصة التي تغري بالتخنث، وبالمهازل التي تقتل الجد والشهامة، وبالخمر التي تذهب بالدين والبدن والعقل والمال، وبالشهوات التي تفسد الرجولة، وبالكماليات التي تثقل الحياة، وبالعادات التي تناقض فطرة الله، وبالمعاني الكافرة التي تطرد المعاني المؤمنة من القلوب. فإن شئت أن تذيبي هذه الأسلحة كلها في أيدي أصحابها فما أمرك إلا واحدة، وهي أن تقولي: إني مسلمة… ثم تصومي عن هذه المطاعم الخبيثة كلها… إن القوم تجار سوء، فقاطعيهم تنتصري عليهم… وقابلي أسلحتهم كلها بسلاح وهو التعفف عن هذه الأسلحة كلها… فإذا أيقنوا أنك لا حاجة لك بهم، أيقنوا أنهم لا حاجة لهم فيك وانصرفوا.. وماذا يصنع المرابي في بلدة لا يجد فيها من يتعامل معه بالربا؟

إنه وصف بليغ لحال امة مظلومة مكلومة، على لسان أمير اللغة و سلطان البيان، لا يزال رنين صداه يلهج بالحق على بعد عقود من الزمن، بل أكاد أجزم أن الوصف لا يزال حيا على مرارته و قد ينسحب اليوم على جل سياسات الغثائية والانبطاح التي تقود دولنا العربية و الاسلامية، الذين أوصلوا البلاد إلى أن أصبحت تأكل مما لا تزرع، وتلبس مما لا تنسج، وتركب مما لا تصنع… هذه سياسة لا تقود إلى مصاف الدول الصاعدة، بل تهوي بالأمة إلى درك التبعية للخارج في قرارتها الاستراتيجية والعيش في المناطق الهشة للاقتصاد الاستهلاكي، {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}، رغم هذه المحنة التي تحاك لشعب مصر حري بالأمة أن تعود لرشنا {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}، ولا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *