وجهة نظر

التغيير الديمقراطي وثقافة البناء

يقول الشاعر الإنجليزي الحداثي و.ه أودين، صاحب قصيدة “المواطن المجهول”: “نحن نفضِّل أن ننهار على أن نتغير”، والمسافة بين “الإنهيار” و “التغيير”، هي نفسها التي توجد بين “ثقافة الهدم” و “ثقافة البناء”، بين “النقد الهدام” و “النقد البناء”، حيث يسعى الأول إلى الهدم دون بناء البديل، بينما يهدف الثاني إلى تصويب الأخطاء وإصلاح الثغرات ثم طرح البديل.

إن النظرية النقدية كانت وما تزال عاملا رئيسيا لنهضة الشعوب، فالفكر الذي رسخ الحداثة وانتشل أوروبا من ظلام العصور الوسطى، تجسد في فلسفة عصر النهضة التي نضجت مع كانط وصولا إلى ماكس هوركهايمر وغيرهما. فالأمم لا يمكن أن تتجاوز ركودها الفكري و نكساتها دون نزعة نقدية بناءة، تشخص التخلف و تدعو إلى الإصلاح مع طرح أفكار لتحقيقه على أرض الواقع، ننتقد المشروع السائد الذي أثبت فشله نظريا و عمليا ثم نطرح الحلول.

تعج اليوم مواقع التواصل الإجتماعي بالأفكار النقدية للواقع المعاش وللمشاريع الموجودة، أفكار وإن تفاوتت في قيمتها وعمقها، فثقافة “الإلغاء ” و “الهدم” تسري في شرايين الكثير منها، حيث نجد عددا غير يسير من الناس الذين لا يتسامحون مع أي فكر أو توجه أو شخص يختلفون معه، وغالبا ما يلجأ بعضهم إلى انتقاد الأشخاص وأفكارهم فقط من أجل أن يثبت أن رأيه هو الحقيقة الساطعة الوحيدة التي يفترض من الجميع تقبلها وتبنيها، سلوك يؤدي في الكثير من الأحيان إلى السقوط في شرك السب والقذف وتبخيس الأشياء دون الإتيان بأشياء أفضل منها، وصولا إلى ترسيخ التطرف و الأفكار السلبية ونشر الإحباط في أوساط الشباب.

لا شك أن النقد ضروري جدا لتجاوز الأزمات وحل المشاكل التي يعيشها المجتمع، وعلى رأسها التخلف و التطرف والفساد و التفقير، لكننا لسنا في حاجة إلى النقد الذي لا يتيح لنا فرصة لتجاوز المشاكل، ولا يؤدي إلى طرح بدائل للبرامج و المشاريع التي نراها فاشلة، فهذا نقد ميت، يهدم القديم دون أن يبني الجديد، وهو ما يؤدي في الكثير من الأحيان إلى التخريب والقطيعة عوض الإصلاح والتجديد، وإلا فما الفائدة من النقد أصلا؟ ففي جميع السياقات، سواء تعلق الأمر بالنقد الداعي إلى القطيعة الجذرية أو ذاك الذي ينادي بالإصلاح، يظل طرح البديل إجباريا، بديل مؤسس على النزعة النقدية، ومتسم بالقدرة على الخلق والإبداع الذي يتفادى الأخطاء ويستفيد منها دون أن يخشاها.

النقد من صلب التنافس، كمعيار لجدية الإدعاءات، على أن يكون بعيدا عن أساليب التكفير والتجهيل و التخوين والتبخيس المجاني و الشخصنة، وغير ذلك يبقى التنافس الشريف والبناء مشروعا ومطلوبا لتحقيق التقدم داخل مجتمع ديمقراطي تعددي، إلا أن ساحة التنافس للأسف تعج بالكراهية والحقد وتصفية الحسابات الشخصية والمؤامرات والمناورات وغيرها، بعيدا عن المصلحة العامة، و هنا يصير النقد جزءا من المشكل لا جزءا من الحل، فبين النقد البناء والهدام، يختلف الهدف بين الرغبة في كشف الحقيقة وتحسين الأوضاع، وبين إثبات الذات ووهم الإنتصار النرجسي بطعم الحقد وبأدوات السب والشخصنة، بين من يقدم البدائل للخروج من الأزمات و تحقيق التطور، و من يخرب من أجل التخريب.
يقول الناقد الأمريكي الحائز على جائزة نوبل للأدب توماس ستيرنز إليوت: “إذا لم تكن تملك القوة لتملي شروطك على الحياة، فلا سبيل لك إلا أن تقبل بالشروط التي تملى عليك”، وعلى نفس الإيقاع نقول “إذا لم تمارس السياسة مورست عليك”، جميل أن ننتقد الوضع السياسي ببلادنا والمتسم فعلا بأزمة بنيوية لا يمكن “إخفاؤها بالغربال” كما يقال، مفيد جدا أن نشخص الأمراض الخطيرة التي تتخبط فيها الأحزاب، وننبه المؤسسات والرأي العام إلى المسار الخطير الذي نسلكه والذي سيؤدي بنا إلى مستقبل غامض، لكن الأفيد أن نشخص المشاكل والإختلالات التي نعاني منها بشكل علمي وموضوعي، و نبحث لها عن أجوبة و حلول عملية، عوض الإكتفاء بالصراخ ولعن الظلام، فلنوقد شمعة ثم شمعتان وهكذا…

صحيح أن الإحتجاج صحي إذا كان هدفه تصحيح الأوضاع وتحسينها في كل القطاعات، والضغط لنيل الحقوق، إذا كان يسعى إلى تحقيق المساواة والحرية و العدالة والديمقراطية، لكنه لا يكفي أبدا لتحقيق الإصلاح، لذلك فنحن نحتاج اليوم إلى شباب يعبر عن طموحاته وتطلعاته عن طريق الإنخراط الفعلي في مشاريع تسعى إلى تحقيق ما يتطلع إليه، شباب يمتلك أدوات النقد البناء و يساهم في طرح البدائل خدمة للوطن والمواطنين، هذا هو أصل ورهان مشروع حزبنا الشبابي “التجمع من أجل التغيير الديمقراطي”، هكذا انطلقنا من نقد ذاتي بناء أفضى بنا إلى ضرورة الإنتقال من “ثقافة المقاومة” إلى “ثقافة بناء المشروع” و “ثقافة البدائل”.

كنا ننتقد كثيرا و ننتج قليلا، واليوم رهاننا أن نواصل النقد البناء مع إنتاج الأفكار و التصورات و الحلول و البدائل، يقول المثل الدارج “اللي قال العصيدة باردة يدير يدو فيها”، وهو مثل حي يعبر عن الصعوبات المرتبطة بممارسة العمل السياسي، خصوصا في ظل التخبط و الفساد المستشري و السلوك السياسي المتدني والعزوف السياسي الكبير، هو قرار صعب ومرير، لكنه واحد من المسارات الناجعة الكفيلة بتمكيننا من المساهمة في إصلاح ما يمكن إصلاحه، في محاولة التعبير عن عدم رضانا عن الطريقة التي يدبر بها الشأن العام، من خلال مشروع حقيقي يطرح البدائل و الأجوبة الشافية للأسئلة الحارقة، عوض الإختيار السهل المتمثل في لعب دور المتفرج الذي يسب ويصرخ مؤاخذا اللاعبين على أخطائهم، وهو يتناول الفشار على المدرجات.

قد يصيح قائل: الشروط الموضوعية لم تنضج بعض، فنجيبه: من سيقوم بإنضاجها، إن فضلنا جميعا مقاربة “الخمول والكسل” والإكتفاء بالصراخ من وراء شاشات الهواتف الذكية؟ ثم ماذا فعلتهم حتى تنضجوا شروطكم الذاتية أولا؟، إننا في مشروعنا الحزبي ندرك جيدا جسامة المجهود الذي ينتظرنا، بعد سنوات من “الفساد السياسي” و “السياسات الحكومية الفاشلة” و الإحباط العميق لدى الكثير من الناس من الفعل السياسي ككل، لن يكون سهلا أن نقنع الكثيرين بأن ساعة التغيير الديمقراطي قد حانت، وأننا جزء من حراك مؤسساتي قادر على صنع الفرق، لكن هذه العراقيل لن تثنينا في التماس طريقنا نحو المستقبل كشباب يحلم بالمشاركة الإيجابية في المساهمة في إصلاح الأوضاع، و إن لم نستطع فلا بأس في ذلك، يكفي أن نبث الأمل و الطموح في أوساط الشباب و نقنعهم أن التغيير ممكن، يكفي أن نبادر إلى الخروج من دائرة “الفراغ” و مقاربة “الكرسي الشاغر”.

الشباب في حاجة لمن يحتضنه ومن يشركه في بناء المستقبل، من يؤطره ويدمجه في جميع مواقع تدبير الشأن الحزبي والعام، لا لمن يؤثت به المشهد ويلقنه ممارسات سياسية رديئة تطيل زمن الأزمة وتعيد إنتاج نفس النخب، الأحزاب في حاجة إلى “تجديد النخب” لا “استنساخها”، في حاجة لمن ينقذ الكثير منهم من اليأس، إلى من يتبنى مطالبهم وتطلعاتهم من أجل غد أفضل، إن من شأن الانتقال من النقد الهدام والمجاني إلى النقد البناء، أن يشكل بداية حقيقية لوعي شبابي كبير يقود إلى مساهمة فعالة في التنمية والتقدم، مع وعينا بأهمية الاحتجاج والترافع البناء أيضا، في ظل القوانين المؤطرة، و مع الحفاظ على الاستقرار، الإحتجاج الملتزم الواعي، الذي يشخص الأمراض ويقترح وصفات لعلاجها، الاحتجاج المسؤول الذي لا يصمت أبدا أمام مظاهر الفساد المستشري في شرايين المؤسسات، مساهما في اجتثاثه بلا هوادة، مع طرح حلول من شأنها تقعيد تصورات ترسخ الحكامة الجيدة والنزاهة والديمقراطية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *