وجهة نظر

الدين والقضية الكردية.. من ممنوعات تركيا الى دعايات انتخابية

بدأت القضية بعد الحرب العالمية الأولى وتفكيك السلطنة العثمانية التركية وتولي مصطفى كمال أتاتورك عبر حزب الشعب الجمهوري حكم البلاد، تميزت البلاد بأمرين:-1- تغريب قسري ومنع الدين ومظاهره.
2- منع كل قومية غير التركية وجعل الطورانية هي الهوية الوحيدة لكل سكان تركيا.

دينياً كان منع الكتب الداعية الى الدين والدعاة الحقيقيين والأذان باللغة العربية وتحويل جامع “أيا صوفيا” إلى متحف، ومنع الحجاب وإكراه الناس على التشبه بالغرب في المظهر، وإجبارهم على أفكاره في المخبر، وكان الجيش هو حامي العلمانية في صورتها الأكثر صلابة عبر سلسلة من الإنقلابات والإعدامات، وتحويل الكتابة من الأحرف العربية الى اللاتينية، وفي الجانب القومي كان فرض الطورانية على الجميع ومنع التحدث بغير اللغة التركية بإعتبارها اللغة الرسمية الوحيدة، وبناء عليه كان حظر كل نشاط غير تركي طوراني، وجعل نشيد “أنا تركي” ضمن المنهج العام في المدارس ينشدها التلاميذ، أي أن الكوردي والعربي كانوا ينشدون مكرهين: أنا تركي، ليس على أساس الإنتماء إلى إسم تركيا كدولة وإنما على أساس الإنتماء إلى القومية التركية.

ومن ردات الفعل على هذه السياسة الإستبدادية القهرية بحق كل المواطنين في الدولة دينياً وبحق بعضهم قومياً، جاءت ثورة الشيخ سعيد بيران – ١٩٢٥ – في مدينة وان-، النتيجة كانت إعدامه مع رفاقه الخمسة والعشرين شنقاً معلقين جثثهم بالأعمدة في شوارع المدينة، لا أحد إلى الآن رغم المطالبات الكثيرة من عائلته بتحديد القبر وتسليم الجثة.

لكن التجسيد الشامل للمنعَين الديني والقومي كان في شخص بديع الزمان الإمام سعيد النورسي، فقد قاسى وعانى الأمرَّين من الأمرين، مباشرة بعد القضاء على الشيخ بيران جاء الشرطة وأخذوه من بين طلابه وهو يدرسهم التفسير على سطح بناء مدرسته ومنذ ذلك الوقت إلى أن وافاه الأجل سنة ١٩٦٠ كانت حياته بين السجن والنفي والمحاكمة، من جهة الدين الملاحقة طالته حتى شملت تفسيره لقوله تعالى { للذَّكَرِ مثلُ حظِّ الأنثَيَين}، وكانت رسالة ” مرشد الأخوات” الناصحة للمرأة المسلمة والداعية لها الى التمسك بالدين سبباً لسوقه إلى لمحاكم وهو يعيش في المنفى، كما كانت الهجمات لا تتوقف عليه لأصله العرقي الكردي وإثارة التعصب القومي الطوراني لدى الشعب من أجل إبعاد الشباب الترك عنه.

وفي ثمانينيات القرن الماضي بدأ تمرد كردي مسلح بقيادة عبدالله أوجلان، ومازالت الدماء تسيل.

إستمر الحال في الحظر المتتالي لكل كيان حزبي أو تجمع سياسي تُشَمُ منه رائحة التدين أو القوم، حُلّت أحزاب نجم الدين أربكان، وإجباره على تقديم الإستقالة في الحكومة الإئتلافية مع تانسو شيلر في ١٩٩٧، و زُجَّ برجب طيب أروغان في السجن ومنعه من ممارسة السياسة أربع سنوات بتهمة قراءة نشيد ديني في إحدى التجمعات الجماهيرية. إضافة إلى طرد مروة قاوقجي مرشحة حزب الرفاه من البرلمان وسحب الجنسية التركية منها للإلتزامها الديني.

كانت الشعوب في تركيا تحت هذه القيادة السياسية الاستبدادية اللادينية تعاني لحين مجيء حزب العدالة والتنمية الى الحكم برؤية واضحة بقيادة رجب طيب أردوغان في ٢٠٠١، ثم بدأت الأمور تأخذ منحىً آخر، الحزب إعتمد على ما يحمله من فهم وروح دينية وخلفية حضارية اجتماعية تاريخية مع محاولة الإنسجام مع المعايير الأوروبية في الحكم والحقوق. والإنفتاح وكسر الأقفال التي ظَنّ الجميع انها لا تُكسَر لأنها محمية بالدبابات، لكن الدبابات والطائرات لم تسعف القهر والاستبداد في إنقلاب حزيران ٢٠١٦، حطَّم الرجل السدود الظالمة، وجرت مياه الحرية بنسبة كبيرة في جسد الدولة والشعب.

دينياً، تحرر كل شيء، لا ممنوعات، بل أصبح التدين محل فخر واعتزاز والدعوة اليه متاحاً للجيمع ومرغباً فيها، أُسست المدارس والمعاهد و المراكز لتحفيظ القرآن الكريم، وإذاعات وقنوات تلفزة، لأول مرة تصاحب زوجة الرئيس المحجبة رئيسَ البلاد في المنتديات الرسمية، وعادت الحرية للزي الشرعي للمرأة، أعيدت الجنسية التركية لمروة قاوقجي وأصبحت سفيرة البلاد في ماليزيا، أعيد آيا صوفيا من مسجد إلى جامع مفتوح أبوابه أمام المصلين، وفي وقت كان المرشح الرئاسي يتبختر بعلمانيته وعائلته المتغربة، المرشح بدأ يذكر آيات القرآن الكريم ورفع كتاب الله أمام الحشود للتأكيد على البعد الديني والتاريخ الحضاري للأمة التركية ولسان الحال يقول لا تترددوا بالجهر بإنتمائكم الديني.

وعلى الجانب القومي رفع الحظر عن الحديث بغير اللغة التركية، بدأت الاحتفالات القومية الكردية ممزوجة بالأغاني الفولكلورية، ودخلت الدولة في مشروع سلام مع الحركة الكوردية المسلحة كإعتراف بوجود قضية بحاجة الى الحل، إذاعات وقنوات تتحدث اللغة الكوردية، لكن القضية لم تنتهي بعد، ومع الملاحظات الجدية على تعامل مؤسسات الدولة مع المشكلة والتشدد في مسائل كانت من البدهيات زمن العثمانيين مثل العقوبة على التلفظ بمفردة “كُزدستان”، إلا أنّ العين لا تقدر على نكران أن المنطقة الكوردية قد شهدت تحسناً ملحوظاً على مستوى الخدمات، والإعتراف بالهوية. نحج أردوغان في إستمالة الملايين من الشعب الكردي لجانبه، وما ذلك إلا من بوابة التغير والتحسن الحاصل، والنابع من الخلفية الدينية الإسلامية للرجل.

الأمران الممنوعان اللذان كان الناس تعلق بالمشانق لمجرد الشك والتوهم بوجود علاقة بهما، تحولا في الانتخابات الحالية ٢٠٢٣ إلى شعارات لكسب الأصوات الناخبة، ليس التأكيد عليهما من حزب العدالة والتنمية محل إستغراب، لكن أن يأتي ذلك من أشد الناس يسارية وعلمانية فهذا هو الغريب، وإن دلّ على شيء فهو دليل على أنّ أردوغان انتصر في مشروعه وألحق الهزيمة بغريمه التاريخي حزب الشعب الجمهوري- حزب كمال أتاتورك-.

كمال كليكجدار أوغلو المرشح الرئاسي ورئيس الحزب الاتاتوركي الناكر الصريح للدين، وَقَّع تصريحات له بالعنوان المذهبي بأنه ” علوي”، و صرحت رئيسة حزب الجيد -ميرال أكشينار- المتحالفة مع كليجدار اوغلو بأنها تصلي الصوات الخمس منذ أن كانت صغيرة. واوغلو الذي ارتكب حزبه مجازر بحق الشعب الكردي عبر التاريخ الحديث -ديرسيم -كمثال، دخل في حوار سرّي مع حزب الشعوب الرافع للقضية الكردية، الرئيس السابق لحزب الشعوب “صلاح الدين دميرتاش” قال من داخل غرفة السجن إن صوته لكليجدار أوغلوا، علماً أنّ الجيش التركي يتهم الشعوب بالعلاقة مع حزب العمال المقاتل المسلح ضد تركيا.

وهكذا نجح أردوغان في رفع الحظر عن الكورد والدين وتحولا من ممنوعات إلى شعارات في أكثر الانتخابات التركية شراسة وأهمية منذ عقود .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *