وجهة نظر

الملف الأمني بين بغداد وأنقرة وأربيل

عندما كان السيد احمد الجلبي – رحمه الله- رئيساً لمجلس الحكم الإنتقالي في نهايات سنة 2003 زار طهران وعاد بفكرة طرد أعضاء منطمة مجاهدي الخلق الإيرانية المعارضة من الأراضي العراقية و تحويل القاعدة العسكرية التي كانت مركزهم الرئيس في محافظة ديالى الى قاعدة عسكرية عراقية، التقيت به بعد اجتماع دوري للمجلس في المنطقة الخضراء، وسألته عن دوره في إصدار القرار فقال: “شرف لا أدعيه وتهمة لا أنفيها”.

هذه الخطوة كانت البداية لمحاربة المعارضة الإيرانية في مأواهم العراقي، العراقيون الذين كانوا غير مرتاحين أو لا يستسلمون للدور الإيراني في العراق كان التصرف معهم بطرق أخرى، أما الإيرانيون المعارضون ” مسلحين وغير مسلحين” كانت الفكرة هي محاصرتهم داخل المخيمات ومن ثم طردهم من العراق تحت إشراف المنظمة الأممية مثل ما حدث مع منظمة المجاهدين، هذه المنظمة كانت تحارب الشعب العراقي في الأماكن التي كان النظام يحددها لها ويطلب منها التدخل عسكرياً، فعلت ذلك في منطقة كلار وكفري جنوبي محافظة السليمانية، لكن الأحزاب الكوردية المعارضة المسلحة لإيران كانت تصرفاتها مختلفة، فهي على وفاق تام مع المكونات الشعبية في المناطق التي يستقرون فيها، ولم تحارب الشعب العراقي، وهي تراعي الى حدّ بعيد الوضع الذي يحكم العلاقات السياسية الخارجية لإقليم كوردستان، وكانت هي باقية تحت الحكم الكوردي منذ 1991-2003 من دون إثارة الحساسيات أو وضع الطرف الكوردي الرسمي في أربيل أمام المواجهة المباشرة مع الإيرانيين، الآن وبعد الحركة الإحتجاجية التي غطت مدناً كثيرة وكبيرة في إيران، في مقدمتها المنطقة الكوردية” شرق كوردستان”، إختلفت الأحوال، وبدأ الإيرانيون بقصف صاروخي مباشر، في تلك الأوقات كانت المسيرات التركية من جانبها تقصف هي أيضاً وتقتل داخل أراضي الإقليم، إلى هنا الصورة ليست غامضة، ولا إشكال في فهمها كما هي دون تشويش، لكن الذي حصل هو الاتفاق الأمني العراقي الإيراني القاضي بطرد عناصر تلك الأحزاب الكوردية المسلحة والمعارضة لإيران من العراق وإلا فإن قوات الحرس الثوري هي التي تتصرف منفردة، قالوها بلهجة حازمة، خضع الجانب العراقي ورضخ أمام إيران، في تلك الساعات فقط ومن دون تأخير جاء القصف التركي الموجع للاتحاد الوطني الكوردستاني المتهم بإيواء عناصر حزب العمال الكوردستاني، القصف ضرب المطار الزراعي في بلدة ” عَرْبَتْ” 25″ كم شرق السليمانية قتل عناصر من قوات مكافحة الإرهاب الكوردية التي تتمرن أحياناً في المطار، الرسالة كانت واضحة وهي: “إتفاق شبيه بالإتفاق مع طهران وإلاّ !”. وقد طلبت الخارجية التركية رسمياً من بغداد تعريف حزب العمال كمنظمة إرهابية، لكن لم يحدث ولن يحدث على الأقل في الوقت القريب، وخلف ذلك تكمن الأسباب التالية:-

  • إن الهيمنة التي تمتلكها إيران على الحكومة العراقية لا تمتلكها تركيا.
  • إن القوى الرئيسة الحاكمة في العراق تريد إيراناً قوية ومستقرة، لكن رغبتها في رؤية تركيا عكس ذلك.
  • بالتالي إن أية قوة سياسية أو عسكرية تحارب إيران ومصالحها تكون هدفاً لتلك القوى العراقية، وإن كل قوة سياسية أو عسكرية تقف ضد مصالح تركيا في العراق تسهل لها طرق العمل وإن لم يعلن الدعم المباشر لها.

والمثال على ذلك، أنه وأثناء القصوفات الإيرانية المتكررة للقرى والبلدات التي تأوي المعارضة الكوردية الإيرانية، كان السياسيون العراقيون يتهمون تلك الأحزاب بأنها إرهابية وتستقر في إقليم كوردستان ضد الجارة الايرانية، و خلال الاحتجاجات الإيرانية وحينما كانت القنوات الإعلامية الكوردية تغطي الحدث، خاصة في المدن الكوردية كان المتحدثون من العراقيين في بغداد ينتقدون تلك القنوات و وإنها تساعد على نشر الإرهاب في إيران. لكن مع تركيا الموقف معاكس تماماً، فالقصف التركي لعناصر حزب العمال إنتهاك للسيادة العراقية من جانب مع تقديم الدعم من مؤسسات أمنية عراقية لقوات تابعة للحزب وتغطية سياسية وشبه رسمية لوجود عناصره وتحركاتهم داخل الأراضي العراقية من جانب آخر، ليست في مناطق خاضعة لسلطة الإقليم وإنما ما تقع تحت إدارة المركز في سنجار كمثال.

أما العراق وتعامله مع الملف من حيث الواقع، فالمؤشرات ترمز إلى أنه يستعمل تلك الأوضاع الأمنية التي تؤلم إدارة الإقليم وشعبه كأدوات لتحقيق غايات سياسية على حساب الإقليم، فهو:-

  • بسكوته أو تعامله مع القوى العسكرية المناهضة لتركيا يدفع الأخيرة لمزيد من الولوغ العسكري في الإقليم.
  • نتيجة سقوط الضحايا من المدنيين في الإقليم تزيد الفجوة بين أربيل وأنقرة وتتوسع، أو بين الشعب في كوردستان وحزب العدالة والتنمية الحاكم، ويضع على صورة الرئيس التركي المزيد من الألوان الغائمة أمام العين الكوردية.
  • المزيد من التوتر في الإقليم يخلق المزيد من التباغض والتباعد بين قوات كوردية عراقية أو تركية.
  • يعمل من أجل إجبار أنقرة للعمل معه لمعالجة الملف، العمل معه ومع القوى المسيطرة في بغداد وليس مع الإقليم، وهنا تشترط بغداد أو تلك القوى الحاكمة تواجد القوات المركزية من وزارة الدفاع في المنطقة، وتحويل الملف بكامله الى بغداد وإزاحة الإقليم في إدارته إزاحة كاملة، ربما صعب نيل تلك القوى مرادها، لأن العقل الاستراتيجي التركي يدرك جيداً أن العراق لإيران وليس له، وإن الساحة الكوردية هي الأنسب للعمل بالنسبة له، والإيرانيون يدركون هذا أيضاً ولهذا يحمون الظهر المكشوف لعناصر حزب العمال في مناطق حدودية شاسعة معهم، بكلمة أخرى ان القوى العراقية الحاكمة والمؤثرة في بغداد تلعب بالورقة الأمنية مع تركيا كأي ورقة أخرى – كالورقة الاقتصادية – لإضعاف القوة السياسية الخارجية لإقليم كوردستان، ولإرباك السياسة التركية في نطاق ترتيبٍ إقليميٍ يعمل على توجيه الأَحداث لتحقيق أهداف ستراتيجية.

 *  كاتب وباحث من كوردستان

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *