منوعات

مستعد يكتب: سيرة حياة فرانسوا بورغا “اليساري الإسلامي”

سيرة حياة فرانسوا بورغا “اليساري الإسلامي” أو “كيف نفهم الإسلام السياسي؟”

كتاب أكثر من مفيد وأكثر من مضيء في هذه الظرفية التاريخية التي تعيشها المنطقة العربية أصدره فرانسوا بورغا عالم السياسة الفرنسي المعروف المتخصص في الشأن الإسلامي. هي سيرة ذاتية أكاديمية تبحث في أعماق المجتمع والسياسة والتاريخ وفي الفكر الإسلامي المعاصر في ظل سوء فهم كبير ودموي بين الشرق والغرب. الكتاب يحمل عنوان “كيف نفهم الإسلام السياسي. مساري في البحث حول الآخر الإسلاموي. من 1973 إلى 2016”. )منشورات لاديكوفيرت. باريس).

ويحكي عصارة تجربة فرانسوا بورغا طيلة 43 سنة عاش خلالها في مختلف الدول العربية: من الجزائر إلى اليمن، مرورا بمصر وسوريا وفلسطين. كما اهتم بالإسلام السياسي في المغرب وتعرف شخصيا على بعض الباحثين والفاعلين المغاربة في هذا المجال. ويقول باحث مغربي في علم السياسة إن “فرانسوا بورغا رجل بحث ميداني حقيقي”. وقد انطلق الكاتب طبعا في مسار بحثه الأكاديمي هذا من فرنسا بلده الأصلي الذي أصبح “الإسلام السياسي” اليوم يثير داخله نقاشا واسعا بسبب الأحداث الإرهابية المتزايدة.

أول زيارة قام بها فرانسوا بورغا إلى العالم العربي كانت إلى فلسطين وهو في سن 16. وكانت عبارة عن رحلة إلى القدس برفقة خالته للمشاركة في رحلات حج المسيحيين الفرنسيين إلى الأرض المقدسة تبعا لطقوس التربية المسيحية التي تلقاها بورغا وسط عائلته. وخلال رحلته سيكتشف حقيقة تاريخية كبرى ومؤسسة حيث يحكي أنه خلال توقفه لزيارة مدينة أريحا، التقى صدفة بطفل فلسطيني قال له: “لقد أخذ اليهود أرضي مني”. وهي قولة أثرت فيه كثيرا وقلبت رأسا على عقب الحقائق التي تربى عليها والتي كانت تعتبر فلسطين، أساسا، أراضي مقدسة بالنسبة للمسيحيين. ولم يكن يعرف أن هناك ضحايا فلسطينيين سلبت منهم أرضهم. وستصبح هذه الواقعة ثابتة في تحليلاته وقراءته للقضية الفلسطينية كعنصر مفسر لظاهرة الإسلام السياسي إلى جانب عناصر أخرى كالتسلط والدكتاتورية في المنطقة.

في هذا الكتاب، يحلل فرانسوا بورغا “الإسلام السياسي” من منطلق محاولة الفهم العلمي غير المتحامل. فيحلل خطاب داعش والقاعدة والسلفية والإخوان المسمين.. وغيرهم من مكوني وممثلي الإسلام السياسي. ويبني نظريته على فكرة مفادها أن العنصر الرئيسي الذي يفسر الإسلام السياسي هو: “ثقافة الضغينة الناجمة عن جرح فترة مواجهة العالم العربي للإستعمار في القرن 20 وهو الجرح الذي لم يندمل بعد” كما يقول. ويضيف موضحا: “إن العنف الإسلامي لا يأتي من الإسلام ولكن من تاريخ المسلمين”.

لا يتعلق الأمر هنا بكتاب أكاديمي متخصص يدقق في هذا الموضوع بمناهج علم الإجتماع، ولكنه، بالأحرى، رواية مشوقة يحكي فيها المؤلف بكثير من الدعابة، ومن الدقة المنهجية، سيرة حياته انطلاقا من معايشته اليومية للعرب في مختلف البلدان. ويحكي عن سفرياته ومغامراته، وعن لقاءاته المتعددة سواء بالمواطنين العاديين في الشارع أو مع رجال السياسة والباحثين وغيرهم.

وهكذا، ولأغراض البحث، أجرى بورغا طيلة مساره لقاءات مثيرة مع عدد من الزعماء العرب الراحلين والأحياء مثل الرئيس الليبي معمر القذافي، والفسطيني ياسر عرفات، والسوداني عمر البشير، والتونسي منصف المرزوقي، ومع زعيم حركة النهضة راشد الغنوشي، ومع الراحلين عبد السلام ياسين وعبد الكريم الخطيب. ويقول، مثلا، إن أحد كتبه الأساسية (“في مواجهة الإسلام”) لم يكن ليرى النور لولا لقاءاته وأبحاثه حول أربع شخصيات مهمة متعددة المشارب هي: الشيوعي عادل حسين، والناصري طارق البشري وزعيم حركة العدل والإحسان عبد السلام ياسين وراشد الغنوشي زعيم حركة النهضة. وقد سمحت له إقامته في سوريا واليمن، مثلا، بتقديم تحليل عميق ورائع للجذور السوسيولوجية والدينية لما يعرفه هذان البلدان اليوم من دمار وخراب.

فرانسوا بورغا مدير أبحاث في المعهد الوطني للبحث العلمي الشهير بفرنسا. وقد شغل منصب مدير المعهد الفرنسي للشرق الأوسط IFOP في دمشق من 2008 إلى 2013. كما كان مديرا للمعهد الفرنسي للأركيولوجيا والعلوم الاجتماعية في اليمن. وهو يعتبر نفسه وريثا لجيل من الباحثين الفرنسيين الكبار الذين كانوا يعارضون استعمار فرنسا للدول العربية مثل ماكسيم رودنسون وجاك بيرك وغيرهما.

الكتاب يكشف عن درس كبير في التواضع العلمي بالنسبة لكل الباحثين الذين يريدون التخصص في الشأن العربي الإسلامي وهم في تزايد اليوم في الدول الغربية نتيجة الأحداث الإرهابية وإن كان الكاتب ينتقد بعضهم بحدة وبصرامة. حيث يتوقف بتفصيل وبالحجج عند انتقاده لعدد من المتخصصين الفرنسيين في الإسلام السياسي غير المؤهلين، برأيه، ولكن المعروفين إعلاميا، ومنهم من يحظى بإشهار كبير في المغرب، مثل جيل كيبيل. حيث ينتقد ما يسميه دراساتهم المشبوهة والموجهة بالسلطة والمال ووسائل الإعلام. كما ينتقد توجها عاما لدى الباحثين الفرنسيين والعرب في علم السياسة يقضي بتهميش الفاعلين الإسلاميين وعدم الإنصات إلى خطابهم السياسي.

بحيث يرى أن هناك اهتماما فقط بمعارضي الإسلاميين سواء من ممثلي السلطة أو ممثلي اليسار نظرا لإيمان هؤلاء الباحثين بفكرة وقناعة تقول: “من لا يشرب كأس الخمر فهو ليس منا” حسب كلمات أغنية فرنسية شهيرة. وهذا يمس برأيه بنزاهة الباحث والعالم السياسي الذي ينبغي أن ينصت إلى جميع الأطراف ليكون أقرب إلى الموضوعية في أبحاثه. ويرجع بورغا تشبثه بهذا الحياد العلمي رغم صعوبته إلى عاملين اثنين: أولا التربية التي تلقاها والتي تقوم على الإيمان بالاختلاف وباحترام الآخر مهما كانت ديانته وعقيدته، وإيمانه بقيم إنسانية وعالمية مشتركة. والعامل الثاني هو أنه بدأ مساره في البحث في الميدان أولا من خلال اللقاء الإنساني المباشر مع الفاعلين. بحيث أنه لم يبدأ ويقتصر مثل الكثير من الباحثين على قراءة الكتب فقط أو على الجلوس في المكتبات بشكل يجعل الباحث معزولا في أبراج عاجية بعيدا عن الواقع.

لكن وللحفاظ على نزاهته الأكاديمية، يتحدث بورغا عن الضغوطات التي تعرض لها في الدول العربية والغربية معا للتأثير عليه ولمنعه من لقاء عدد من الفاعلين ومن رجال السياسة المعارضين عبر العالم العربي سواء من الإخوان الإسلاميين أو اليساريين وغيرهم. وقد تعرض لضغوطات كثيرة من الأنظمة والمخابرات العربية وكذا من اللوبي الصهيوني في فرنسا الذي شن عليه عدة حملات. حيث كان يتم اتهامه بأنه “يساري إسلامي” لأنه كان، مثلا، يقول إن موجة العنف الدموي التي عرفتها الجزائر لا تقف وراءها التنظيمات الإسلامية فقط، ولكن أيضا الجيش والمخابرات الجزائرية كما حصل في قضية المجزرة التي تعرض لها قساوسة فرنسيون كانوا يعيشون في الجزائر، أو كما حصل في التفجيرات التي عرفتها باريس في التسعينيات من القرن الماضي.

وكدليل على هذا التشبث بالعمل الميداني، يحكي الكاتب كيف أنه قرر، خلال إقامته في مصر والتي كانت له فيها لقاءات مع الباحث المغربي محمد الطوزي، يحكي كيف أنه قرر أن يتعلم اللغة العربية حتى يكون دقيقا وجديا في أبحاثه. وقد أصر إصرارا على أن يتعلمها حتى تصبح درجة إتقانه لها تساوي، على الأقل، نسبة 30 بالمائة من قدرته على الحديث باللغة الفرنسية.