البرلمان الإلكتروني.. تجربة مغربية متفردة لإشراك المواطنين في صناعة القرار
نحو برلمان ذكي وآمن .. الذكاء الاصطناعي والأمن السيبراني في خدمة الثقة الرقمية للمغاربة

كان التواصل مع أعضاء مجلس النواب المغربي، قبل سنة 2004، يشكّل تحديا حقيقيا، في ظل غياب أدوات التكنولوجيا الحديثة في المؤسسة التشريعية آنذاك، حيث كانت الإشعارات والرسائل تُرسل عبر التليكس والتلغرام، أو يتم الإعلان عن مواعيد اجتماعات هياكل المجلس من خلال نشرات الإذاعة الوطنية، وهي وسائل تبدو اليوم جزءا من الماضي البعيد، لكنها كانت الوسائل المتوفرة والأساسية في ذلك الوقت.

لقد واجهت المؤسسة التشريعية صعوبات كبيرة في إيصال الرسائل إلى ممثلي الأمة، حيث لم يكن الوصول إليهم أمرا سهلا، خصوصا الذين يبعدون بمئات الكيلومترات عن العاصمة الرباط، مما خلق ارتباكا في التنسيق، وعطّل جدول الأعمال في الكثير من المرات. وفي حال تغيّر موعد اجتماع لجنة نيابية أو جلسة برلمانية دون إشعار النواب، كان ذلك يُفقدهم فرصة الحضور، ويُؤثر سلبا على سير العمل البرلماني وفعاليته.
هذه التحديات التي واجهها مجلس النواب في تلك المرحلة، فرضت البحث عن حلول فعالة لضمان السرعة والدقة والآنية في التواصل مع أعضاء المجلس، وهو ما تحقق مع توظيف التكنولوجيا الرقمية في المنظومة البرلمانية، حيث ابتكر مجلس النواب سنة 2004، منصة رسائل شكلت “ثورة في الإخبار”، ومكنت من إشعار أعضاء المجلس بمواعيد الاجتماعات بسرعة عبر رسائل نصية قصيرة SMS.
غير أن التحول الأكبر الذي شهدته المؤسسة التشريعية جاء بعد إقرار دستور 2011، الذي منح مجلس النواب صلاحيات جديدة مثل تقييم السياسات العمومية، وتعزيز الديمقراطية التشاركية، وإحداث الجريدة الرسمية للبرلمان، كما ارتفع عدد أعضاء المجلس من 325 إلى 395 عضوا، بالإضافة إلى تغييرات أخرى في تركيبته وصلاحياته.
البرلمان الالكتروني
كشفت مصادر مسؤولة بمجلس النواب، في تصريح لجريدة “العمق”، أن الغرفة الأولى للبرلمان شرعت، منذ نهاية الولاية التشريعية 2011-2016، أي بعد ثلاث سنوات من دخول دستور 2011 حيز التنفيذ، في اعتماد استراتيجية طموحة للتحول نحو “البرلمان الإلكتروني”، تحت إشراف رئيس المجلس آنذاك، راشيد الطالبي العلمي. وتهدف هذه الاستراتيجية إلى تعزيز فعالية الأداء البرلماني، وتكريس مبادئ الشفافية والانفتاح على مختلف مكونات المجتمع، إلى جانب تحسين جودة العمليات الإدارية والتشريعية، بما يسهم في ترشيد الجهد والوقت، وتوطيد علاقة المجلس بالمواطنين وشركائه المؤسساتيين.

وأفادت مصادر الجريدة أن مجلس النواب كان، قبل اعتماد استراتيجيته الرقمية، يطبع ما يقارب 500 نسخة من مختلف الوثائق الصادرة عنه أو الواردة عليه من القطاعات الحكومية والمؤسسات الدستورية، ما كان يشكل عبئا ماليا ثقيلا على ميزانية الغرفة الأولى. غير أن تنزيل مضامين الاستراتيجية الرقمية أسفر عن تراجع لافت في استخدام الورق بنسبة بلغت 90 في المائة، إذ لا يتجاوز عدد النسخ الورقية المتداولة حاليا 50 نسخة فقط. وأكدت المصادر ذاتها أن هذا التحول الرقمي مثّل نقلة نوعية في أداء المجلس، من خلال تقليص هدر الموارد، وخفض الكلفة، ورفع فعالية الإجراءات الإدارية والتشريعية.
في السياق ذاته، شدد رئيس مجلس النواب، راشيد الطالبي العلمي، خلال مباحثاته مع رئيس البرلمان العربي، عبد الرحمن العسومي، على أن المجلس أطلق منذ سنة 2014 ورش رقمنة العمل البرلماني والإداري، عبر استراتيجية متكاملة للبرلمان الإلكتروني، تروم تحسين أداء المؤسسة التشريعية، وترسيخ الشفافية، وتيسير الولوج إلى المعلومات.

وسجل الطالبي العلمي خلال اجتماع مجموعة العمل البرلمانية رفيعة المستوى للتكنولوجيا والابتكار والتحول الرقمي لاجتماعها الثاني بالمملكة المغربية، في 22 ماي 2023، أن الرقمنة أسهمت في تطوير منظومة تدبير الوثائق، وضمان سرعة ودقة توفير المعطيات، مما عزز التفاعل مع المواطنين والحكومة، معتبرا أن هذه التجربة الرقمية أصبحت نموذجاً يحتذى به على المستويين الإقليمي والدولي، خاصة في مجالات التشريع ومراقبة العمل الحكومي.
بوابة إلكترونية متقدمة
تُعد البوابة الإلكترونية لمجلس النواب واحدة من أبرز ثمار التحول الرقمي الذي انخرطت فيه المؤسسة التشريعية، إذ تعكس رؤية المجلس في الانفتاح على المحيط وتعزيز التواصل مع عموم المواطنات والمواطنين. ووفق مصدر مسؤول بإدارة المجلس، تتوفر البوابة على محتوى بخمس لغات (العربية، الأمازيغية، الفرنسية، الانجليزية، الإسبانية)، ما يجعلها من بين المؤسسات القليلة وطنيا ودوليا التي تعتمد هذا التنوع اللغوي. ويعد مجلس النواب رائدا في إدماج اللغة الأمازيغية، حيث يقدم الموقع نسخة أمازيغية شاملة تُعد من بين الأفضل في المغرب من حيث المحتوى والتصميم.

وتتيح البوابة الإلكترونية نافذة شاملة على الحياة البرلمانية، حيث يمكن للزوار متابعة الجلسات العامة في بث مباشر، والاطلاع على تقارير اللجان النيابية الدائمة، والأسئلة الشفوية والكتابية، فضلا عن محاضر الجلسات وأجندة العمل التشريعي والرقابي. كما تلتزم البوابة، بحسب النظام الداخلي للمجلس، بنشر المعطيات المتعلقة بتعهدات الحكومة، أجوبتها، الملتمسات في التشريع، وباقي الأنشطة ذات الصلة بالعمل البرلماني.
وأكد المصدر ذاته أن هذه المنصة الرقمية أصبحت مرجعا مهما للمتابعين الأجانب الراغبين في التعرف على التجربة البرلمانية المغربية، ولأفراد الجالية المغربية المقيمين بالخارج، الذين يجدون فيها وسيلة ميسّرة لمتابعة النقاشات البرلمانية ومواكبة المستجدات التشريعية. كما توفر البوابة خدمات رقمية عن بُعد، من بينها تقديم طلبات زيارة المؤسسة، والاستفادة من خدمات مكتبة المجلس، واعتماد الصحافيين، وطلبات التدريب، بالإضافة إلى زيارة افتراضية لمقر البرلمان.
وفي ما يتعلق بتفاعل المجلس مع تعليقات وآراء المواطنين حول مشاريع القوانين، أوضح المصدر أن “بعض التعليقات تفتقر إلى الجدية”، في حين يتم تجميع التعليقات الوجيهة وتحويلها إلى الجهات المختصة أو إلى الفرق البرلمانية المعنية، إذا ارتأت التفاعل معها. لكنه سجل، في الوقت ذاته، وجود فراغ قانوني في النظام الداخلي للمجلس بشأن كيفية التعامل مع هذه التفاعلات، بخلاف تجارب بعض الدول التي وضعت أطرا قانونية وهيئات مخصصة لهذا الغرض.
ومن أجل تعزيز الشفافية وربط المسؤولية بالمعلومة، أنشأ المجلس فضاءات رقمية خاصة بكل نائب برلماني، تبرز أنشطته ومداخلاته وأسئلته، كما خصص نوافذ إلكترونية لكل فريق ومجموعة نيابية، إلى جانب فضاءات خاصة باللجان النيابية الدائمة، ومكتب المجلس، والرئاسة، ومجموعات العمل الموضوعاتية، ولجنة العرائض.
وفي سياق التصدي للأخبار الزائفة والمعلومات المغلوطة التي تُنشر عبر بعض المنصات الإلكترونية ومواقع التواصل الاجتماعي، أحدث المجلس رُكنا خاصا داخل البوابة الإلكترونية تحت عنوان “من حقك أن تعرف”، يهدف إلى تصحيح المغالطات وتقديم المعطيات الموثوقة للمواطنين.
إشادة دولية بالبوابة الإلكترونية
نوه التقرير الثالث للاتحاد البرلماني الدولي الصادر سنة 2022 بالخدمات التي تقدمها البوابة الإلكترونية لمجلس النواب، خاصة فيما يتعلق بالبث المباشر للجلسات عبر منصتي “يوتيوب” و”فيسبوك”. واستشهد التقرير، بمدير الإعلام والتواصل بالمجلس، عزيز محب الذي أبرز أن الجهود المبذولة لتوسيع قاعدة جمهور البرلمان وتيسير الولوج إلى أعماله، تهدف إلى رفع منسوب التفاعل وتعميق فهم المواطنين لأدوار المؤسسة التشريعية، بما يتجاوز الجلسات العامة ليشمل العمل المكثف الذي يُنجز داخل اللجان النيابية.
وأوضح المسؤول ذاته، يضيف التقرير، أن “الناس بدأوا يفهمون أهمية العمل البرلماني وأنه ليس هناك فقط جلسات عامة “تقليدية” حيث يطرح النواب أسئلة وتجيب الحكومة، ولكن أيضا (…) أن هناك عملا كبيرا على مستوى اللجان”. وشدد التقرير على أهمية تنويع أساليب إشراك الجمهور في عمل البرلمان، من خلال اعتماد قنوات وآليات تواصل متعددة للتفاعل مع المجتمع المحلي والتشاور معه، بما يسهم في توسيع قاعدة الانخراط الشعبي في الحياة التشريعية.
كما أشار تقرير الاتحاد البرلماني الدولي إلى أن التجارب الملهمة والموثّقة لزيارة مبنى البرلمان تساهم في تحفيز المواطنين على تعزيز علاقتهم بالمؤسسة التشريعية، وتشجعهم على التفاعل معها بشكل أكبر وأكثر إيجابية.
روبوت في خدمة التشريع
أطلق مجلس النواب مجموعة من الأنظمة الإلكترونية “المبتكرة”، التي تُعد من بين الأبرز على الصعيدين الإفريقي والدولي، وفي مقدمتها نظام الاستنساخ الإلكتروني لمحاضر الجلسات العمومية، الذي تم تطويره بين عامي 2015 و2016. وقد شكّل هذا النظام قفزة نوعية في دقة وسرعة تحويل مداولات البرلمان إلى نصوص مكتوبة، معتمدا تقنيات الذكاء الاصطناعي في تحويل المداخلات الشفوية، بما في ذلك تلك التي تُقدَّم باللهجة العامية (الدارجة المغربية)، إلى محاضر رسمية تُعدّ بشكل آلي.
وتم تطوير هذا النظام بكفاءات مغربية خالصة، عبر شراكة مع شركة وطنية متخصصة، ليُصبح واحدا من الأنظمة القليلة المُستخدمة عالميا في هذا المجال. ويعتمد النظام على تدريب خوارزمي دقيق باستعمال تسجيلات سابقة وتصحيحات بشرية متكررة، ما مكّن من تقليص زمن إعداد المحاضر إلى ساعات معدودة بعد انتهاء الجلسات، عوض أيام كما كان معمولا به سابقا.

من أبرز مميزات نظام الاستنساخ الإلكتروني لمحاضر الجلسات، بحسب ما عاينته جريدة “العمق” كونه يعتمد على “روبوت متعلم ذاتيا”، يطور أداءه باستمرار بناء على التصحيحات التي تُجرى على مخرجاته، ما يُسهم في تقليص نسبة الأخطاء بشكل تدريجي وتحسين فعاليته مع مرور الوقت. ومع بلوغ المشروع مراحل متقدمة جدا، باتت دقّة النظام ترتبط أساسا بجودة الصوت الملتقط من خلال الميكروفونات داخل القاعة. ويُعد هذا الابتكار أداة فعّالة لتوثيق مداولات الجلسات البرلمانية بسرعة ودقة، في تجسيد واضح لالتزام مجلس النواب بالابتكار وتحديث آليات العمل التشريعي.
ورغم الطابع الريادي لهذا النظام على المستويين الإقليمي والدولي، أوضح مسؤول بإدارة المجلس، في حديث لجريدة “العمق”، أن المشروع لا يزال في طور التطوير لدمج اللغة الأمازيغية ضمن منظومة الاستنساخ، مستفيدا من التطورات المتسارعة التي يعرفها الذكاء الاصطناعي في هذا المجال.
إلى جانب هذا النظام، عمل مجلس النواب على تطوير باقة من الحلول الرقمية التي عززت فعالية أدائه المؤسسي، من بينها نظام إلكتروني متكامل لتدبير الأسئلة الشفهية والكتابية، يمكّن من تبادل الأسئلة والأجوبة بين النواب والحكومة بطريقة رقمية سلسة. إضافة إلى رقمنة عدد من المساطر الإدارية والتشريعية، من بينها تعهدات الحكومة، ودراسة النصوص القانونية والتصويت عليها، فضلا عن رقمنة تبادل المعطيات مع الوزارة المكلفة بالعلاقات مع البرلمان، وتدبير اجتماعات المكتب، واللجان، وباقي الهيئات التنظيمية للمجلس، إضافة إلى تنظيم وتوثيق الأنشطة الدبلوماسية البرلمانية.

لوحات إلكترونية للنواب
يعد توفير لوحات إلكترونية لأعضاء مجلس النواب أحد المحاور الرئيسية في مسار التحول الرقمي الذي انخرط فيه المجلس، وهي مبادرة انطلقت خلال السنة التشريعية 2014-2015. ووفقا للمعطيات التي حصلت عليها جريدة “العمق”، فإن هذه الأجهزة الذكية تُسهّل على النواب الولوج إلى مختلف الوثائق الأساسية لممارسة مهامهم التشريعية والرقابية، بما في ذلك نص الدستور، والقوانين الجاري بها العمل، والنظام الداخلي للمجلس.
وتتيح هذه اللوحات البرلمانية التي اطلعت عليها جريدة “العمق”، إمكانية طرح الأسئلة وتتبعها عن بُعد، في إطار نظام إلكتروني متكامل يعزز فعالية التواصل بين النواب ومكونات المجلس، كما تمكّن الأعضاء من الاطلاع على محتوى مكتبات إلكترونية متخصصة، بالإضافة إلى اشتراك مجلس النواب في منصات رقمية متعددة تسهّل الوصول إلى مصادر معرفية متنوعة.
وتتوفر هذه اللوحات أيضا على بريد إلكتروني مهني خاص بكل عضو بصيغة @parlement.ma، إلى جانب تطبيق إلكتروني مطوّر يتيح البحث السريع داخل النظام الداخلي للمجلس من خلال كلمات مفتاحية، مما يسهم في تسريع وتيسير الوصول إلى المعلومات القانونية والتنظيمية الضرورية لممارسة العمل البرلماني بشكل أكثر فاعلية.

ووفقا للمعطيات نفسها، أسهم اعتماد اللوحات الإلكترونية في مجلس النواب في الاستغناء شبه الكامل عن طباعة الوثائق الورقية وتوزيعها، حيث بات من الممكن إرسال التقارير ومشاريع ومقترحات القوانين مباشرة إلى النواب عبر أجهزتهم الإلكترونية، فضلا عن إتاحتها على الموقع الرسمي للمجلس. وتمثل هذه الخطوة، التي انطلقت سنة 2014، تحوّلا جذريا في تبسيط مساطر العمل البرلماني وتقليص الاعتماد على الورق.
ورغم ما توفره هذه الآلية من مزايا تقنية وتنظيمية، إلا أن عددا معتبرا من النواب ما زال يفضل الحصول على الوثائق في نسخ ورقية، ويُظهر عزوفا عن استخدام اللوحات الإلكترونية خلال الاجتماعات واللجان بحسب ما عاينته جريدة “العمق” في أكثر من مناسبة، مما يُبطئ وتيرة التحول الرقمي داخل المؤسسة التشريعية.
أما بخصوص البطاقة الإلكترونية الخاصة بكل نائب، فقد أكد مصدر مسؤول بمجلس النواب، أنها تستخدم حاليا لإثبات الحضور داخل القاعة، بينما يظل خيار التصويت الإلكتروني متاحا من الناحية التقنية، لكن تفعيله على أرض الواقع ما يزال رهينا بقرار رسمي من مكتب المجلس، خاصة أن النظام الداخلي ينص على إمكانية التصويت اليدوي أو الإلكتروني، دون إلزامية اعتماد أحد الخيارين.
رقمنة قانون المالية
اعتمد مجلس النواب نظاما إلكترونيا للدراسة والتصويت على مشروع قانون المالية السنوي، ليصبح من البرلمانات القليلة في العالم التي تستخدم هذه التقنية. ووفقا لمصادر مسؤولة بمجلس النواب، فقد بدأ العمل بهذا النظام سنة 2022، لكنه لم يكن ناجحا بالكامل، بينما كانت التجربة في 2023 أكثر نجاحا، وفي 2024 تمكن المجلس من رقمنة جميع مراحل الدراسة والتصويت على هذا المشروع بشكل كامل.
ويعد مشروع قانون المالية من النصوص المعقدة التي يتعامل معها مجلس النواب، حيث يتطلب تعديلات على نصوص قانونية أخرى مثل مدونتي الضرائب والجمارك، ويشهد المشروع أيضا تدخل عدة جهات، بما في ذلك وزارة الاقتصاد والمالية، والأمانة العامة للحكومة، ولجنة المالية في مجلس النواب، بالإضافة إلى الفرق والمجموعة النيابية التي تتقدم بالكثير من التعديلات.

وأشارت المصادر ذاتها، إلى أنه بتوجيهات من رئيس مجلس النواب، تم التنسيق مع وزارة الاقتصاد والمالية لإنشاء النظام الإلكتروني المذكور، بما يسهل جميع مراحل دراسة مشروع قانون المالية، من الإيداع إلى التصويت. ورغم التحديات التي واجهت أول تجربة في 2022، نجح المجلس في رقمنة المشروع بشكل شامل في 2024، مما ساعد على تسريع العملية.
ويخطط مجلس النواب، لتوسيع العمل بهذا النظام ليشمل جميع مشاريع القوانين، بدءا من مشروع القانون التنظيمي رقم 97.15 تحديد شروط وكيفيات ممارسة حق الإضراب، الذي تمت رقمنة مراحل الدراسة والتصويت النهائي بالجلسة العامة الثلاثاء 24 دجنبر الجاري، مؤكدة أنه يتم تنفيذ كل هذه العمليات بقدرات داخلية، وبجهود الفريق التقني الداخلي، والتعاون مع مديريتي التشريع والأنظمة المعلوماتية، دون الاستعانة بشركات خارجية.
رقمنة الأرشيف
قبل الشروع في تنزيل الاستراتيجية الرقمية، كان الأرشيف البرلماني يعرف حالة من الفوضى، حيث تكدست الوثائق بشكل عشوائي وعلاها الغبار، وغمرتها الرطوبة، مما أدى إلى إهدار وقت وجهد أعضاء المجلس وأطره وموظفيه، وعموم الدارسين، في البحث المضني. غير أنه منذ إطلاق مشروع رقمنة الأرشيف عام 2015، تمكّن المجلس من رقمنة أكثر من 15 مليون صفحة، بحسب المعطيات الحصرية التي حصلت عليها الجريدة.

وقامت جريدة “العمق” بزيارة مستودع الأرشيف الذي يضم وثائق تعود إلى تجربة المجلس الوطني الاستشاري (1956-1959)، وأول برلمان مغربي لعام 1963 حتى اليوم، باستثناء أرشيف الولاية التشريعية (2016-2021)، الذي لا يزال قيد المعالجة. ووفقا لمسؤول في مصلحة الأرشيف بالمجلس تحدث للجريدة، فإن الوثائق الأرشيفية تخضع للمعالجة قبل رقمنتها وإدراجها ضمن الشبكة الداخلية للمجلس، حيث تكون متاحة لأعضاء المجلس والموظفين والأطر فقط، فيما يمكن للباحثين الحصول على وثائق غير سرية عبر البريد الإلكتروني أو زيارة مقر المجلس.
ويشمل الأرشيف البرلماني وثائق متنوعة لمصالح ووحدات المجلس، مثل الموارد البشرية، المالية، الجلسات العامة، اللجان، الفرق والمجموعات البرلمانية، الحسابات، المكتبة، وقسم تدبير الموارد المادية. ويتم تنظيم وتخزين هذه الوثائق باستخدام رفوف قابلة للتحريك (RAYONNAGE AMOVIBLE)، ما يضمن مرونة في إدارة الأرشيف.

ووفقا للمعطيات التي حصلت عليها “العمق”، تتم إدارة الأرشيف بتنسيق بين مصلحتين: مصلحة الربائد، التي تضم خمسة موظفين متخصصين في علوم الإعلام، التوثيق، إدارة الوثائق، والرقمنة، إضافة إلى مهندس دولة مختص في الأرشيف الإلكتروني، وموظف في التوثيق القانوني؛ ومصلحة تطوير الأنظمة المعلوماتية، التي تعمل على تطوير تطبيق خاص بإدارة الأرشيف والذي يوجد في مراحل إعداده النهائية، سيتم تعميمه قريبا على مختلف الوحدات الإدارية.
وأكد المسؤول على مصلحة الأرشيف، أن مشروع الرقمنة انطلق بين 2015 و2018 واستمر أربع سنوات، ومر بمرحلتين أساسيتين: الأولى تمثلت في معالجة الوثائق ماديا لتحسين حالتها وضمان جودتها، والثانية في رقمنتها وإدماجها ضمن الشبكة الداخلية للمجلس. وقد واجه المشروع تحديات تقنية، أبرزها صعوبة قراءة الوثائق القديمة بسبب تدهور حالتها أو ضعف جودة الطباعة.

ومع نهاية كل ولاية تشريعية، تتم رقمنة الوثائق الخاصة بها، وعلى الرغم من بطء العمل في بداية الولاية، إلا أن المصالح والمكاتب تعتمد على تلك الوثائق طوال الفترة التشريعية. وعند انتهائها، تُحوَّل الملفات المكتملة إلى مصلحة الأرشيف، مما يؤدي إلى تراكم كبير في الوثائق، حيث يُقدَّر عدد الصناديق بحوالي 700 صندوق لكل ولاية.
مشكلة مستودع الأرشيف تكمن في محدودية الفضاء مقارنة بحجم الإنتاج الكبير للوثائق، مما يستدعي، حسب مصدر مسؤول بمصلحة الأرشيف، “تدبيرا فعالا لتجنب الامتلاء السريع”، لافتا إلى أنه تجري دراسة إمكانية إتلاف الوثائق القديمة التي فقدت قيمتها القانونية أو التاريخية، مع اقتراح تخزين الأرشيف طويل الأمد في مستودعات خارج المجلس أو عبر شركات متخصصة، في انتظار قرار المسؤولين بعد دراسة المقترحين.
أرشيف بمعايير دولية
ووفقا لما عاينته جريدة “العمق”، تم تصميم المستودع الحالي وفق المعايير الدولية، مع تجهيزات تشمل أجهزة لامتصاص الرطوبة، وتهوية ملائمة، ومنع مرور قنوات المياه، واستخدام صناديق ورقية مقاومة للحريق ذات جودة عالية قادرة على تحمل الحرارة لمدة تصل إلى 35 دقيقة، مما يوفر حماية فعالة للوثائق. ورغم تكلفتها، تُعتبر هذه الصناديق استثمارا طويل الأمد أثبت فعاليته على مدار 10 سنوات، يؤكد المسؤول ذاته.

“داتا سانتر” .. قلب البرلمان
يعد مركز البيانات بمجلس النواب بمثابة القلب النابض للبنية الرقمية للمؤسسة التشريعية، إذ يحتضن أحدث الأجهزة والخوادم والتقنيات المتقدمة التي تشكّل العمود الفقري لنظام معلوماتي متكامل، يدعم مختلف جوانب العمل البرلماني. وخلال زيارة قامت بها جريدة “العمق” إلى هذا المركز، وقفت على حجم التطور الذي شهدته البنية التحتية الرقمية للمجلس، والتي تُسهم في تسريع وتيرة الأداء، وضمان الاستمرارية التقنية والأمن المعلوماتي في جميع الظروف.

ويتميّز نظام التخزين داخل مركز البيانات، بحسب الشروحات التي قدمت للجريدة، بثلاث طبقات متتالية من الأمان، تضمن حماية قصوى للبيانات من الكوارث المحتملة والأعطاب التقنية. ويتم الاحتفاظ بنسخ احتياطية من البيانات في موقع خارجي مؤمّن، بعيداً عن المقر الرئيسي، مما يوفّر ضمانات إضافية لاستمرارية العمل البرلماني حتى في حالات الطوارئ. وتُعزز هذه الإجراءات من موثوقية البنية الرقمية للمجلس، مما يجعل مركز البيانات نموذجا يُحتذى به وطنيا وإقليميا في مجال إدارة البيانات وحماية المعلومات.

ويعمل المركز على ضمان استمرارية الخدمات دون انقطاع، حيث لا تتجاوز فترة توقف الأنظمة عند حدوث أي عطب تقني 15 دقيقة، وفقا للموظف المسؤول بالمركز، مبرزا أنه لتعزيز هذا المستوى العالي من الجاهزية، تُجرى محاكاة لحالات الطوارئ مرتين سنويا. ويتم خلالها اختبار الاتصال بنظام التخزين الاحتياطي الواقع في موقع بعيد باستخدام شبكات الإنترنت المتاحة مثل 4G وADSL، وقد أثبتت هذه الاختبارات فعالية النظام وقدرته على التعامل مع مختلف الظروف الطارئة.

ويتولى فريق الصيانة التقنية متابعة سير العمل بكفاءة عالية، من خلال القيام بجولات تفقد يومية تشمل الأجهزة والخوادم. وتشمل هذه الجولات فحص أداء أنظمة التبريد، التي تلعب دورا حيويا في الحفاظ على كفاءة الخوادم. ويتم تسجيل جميع الملاحظات المتعلقة بأداء الأجهزة بشكل منتظم، ما يساعد على اكتشاف الأعطال أو المشاكل التقنية في مهدها ومعالجتها فورا، مما يساهم في الحفاظ على استقرار الأنظمة وتقليل خطر التعطل المفاجئ.
التواصل الاجتماعي
يحرص مجلس النواب على تعزيز حضوره الرقمي من خلال شبكات التواصل الاجتماعي، حيث تُعد صفحته على “فيسبوك” من بين الأكثر نشاطاً ضمن مؤسسات الدولة، بأكثر من 170 ألف متابع. وعلى “تويتر” (حاليا “إكس”)، يتابع المجلس نحو 200 ألف حساب، غالبيتهم من الدبلوماسيين والبرلمانيين المغاربة والأجانب، بينما يتجاوز عدد متابعي المجلس على “إنستغرام” 30 ألفا. أما قناته الرسمية على “يوتيوب”، فتضم أكثر من 35 ألف مشترك، وتُبث عبرها الجلسات العمومية والأنشطة الدراسية والتواصلية.
وكشف مصدر من مديرية التواصل بالمجلس، في تصريح لجريدة “العمق”، أن قناة “يوتيوب” اكتسبت أهمية خاصة خلال جائحة “كوفيد-19″، حيث تم بث اجتماعات اللجان البرلمانية -رغم سرّيتها وفق الدستور- تماشيا مع الطابع الاستثنائي للمرحلة، وحاجة المواطنين إلى المعلومة، مفيدا بأن هذا التفاعل الرقمي عزّز صورة المجلس كمؤسسة منفتحة وسبّاقة في مجال الشفافية والتواصل الرقمي.
وأكد المصدر نفسه أن مجلس النواب نجح في اجتياز تلك المرحلة الدقيقة، في وقت توقفت فيه مؤسسات تشريعية عريقة بدول أخرى، وهو ما يُعزى إلى الإرادة السياسية القوية التي رافقت هذا الورش، وإلى توفر بنية معلوماتية متطورة مكّنت من مواصلة العمل البرلماني عن بُعد، دون انقطاع في الأداء أو المهام.
الهجمات السيرانية
مع تزايد التهديدات الإلكترونية على الصعيد العالمي، أصبح مجلس النواب هدفا محتملا للهجمات السيبرانية، سواء من قبل عصابات إجرامية منظمة أو من جهات معادية للمغرب، بالنظر إلى رمزية المجلس كمؤسسة دستورية تمثّل السيادة الوطنية. ووفق تصريح لمسؤول رفيع بالمؤسسة التشريعية، فإن المجلس يسجل يوميا محاولات اختراق سيبراني، ما يفرض اعتماد تدابير أمنية صارمة وإجراءات وقائية متواصلة لحماية المعطيات الرقمية، وتأمين البنية التحتية التكنولوجية ضد أي اختراق محتمل.
وأكد المسؤول نفسه أنه فور دخول القانون المتعلق بالأمن السيبراني حيز التنفيذ، انخرط مجلس النواب بفعالية في تنزيل مقتضياته، لمواجهة المخاطر المتنامية التي تتهدد المؤسسة، مبرزا أن المجلس اعتمد خطة متكاملة بتنسيق مع إدارة الدفاع الوطني، تروم تعزيز البنية التحتية للمعلومات، وتطبيق بروتوكولات دقيقة لتأمين المعطيات الرقمية، بما يضمن حماية مستدامة للأنظمة المعلوماتية. وتشمل الخطة أيضا تنظيم دورات تكوينية سنوية لفائدة الموظفين والأطر، تركز على كيفية التعامل مع الروابط المشبوهة، والوقاية من الهجمات السيبرانية، بما يسهم في تعزيز وعي الموارد البشرية، وضمان سلامة البيانات الحساسة، وحماية المؤسسة باعتبارها إحدى ركائز السيادة الوطنية.
معركة يومية
يسعى مجلس النواب، بحسب مسؤول رفيع بإدارة مجلس النواب، إلى نقل الخبرات الرقمية المتراكمة للأجيال الجديدة من الموظفين، من خلال تعزيز المكتسبات وتطويرها لأن الرقمنة بتعبيره “معركة يومية”، مضيفا أن المجلس يعمل على توثيق العمليات وتبسيط الإجراءات داخل كل مديرية لتسهيل أداء المهام وضمان كفاءة الخدمات، بما يضمن استمرارية مسيرة التحول الرقمي وتوسيع نطاقها.
في سياق متصل، أشار إلى أن المجلس يعمل على الدخول في المرحلة الثانية من التحول الرقمي، مع التركيز على مواجهة تحديات الذكاء الاصطناعي ودمج التطبيقات الرقمية للمديريات في نظام موحد، مبرزا أن الهدف من هذه الجهود هو تقديم إدارة برلمانية أكثر تكاملا، مع توفير خارطة طريق واضحة للمسؤولين الحاليين والمستقبليين.
وعزا المسؤول ذاته هذه الانجازات إلى الدعم القوي من رئيس المجلس رشيد الطالبي العلمي، الذي يلعب دورا محوريا في دفع المشروع، بالإضافة إلى تفاني الموظفين الذين يعتبرون أن نجاح هذا المشروع يمس حاضر ومستقبل المؤسسة التشريعية، بوصفها ركيزة أساسية في الهندسة الدستورية للمغرب ومؤسسة وطنية تحمل تطلعات الشعب والملك.
الفجوة الرقمية
يرى متتبعون للشأن البرلماني أنه، رغم الإنجازات الهامة التي حققها مجلس النواب في مجال التحول الرقمي، فإن هذا المشروع لا يزال يواجه العديد من التحديات، أبرزها عدم تأقلم عدد كبير من أعضاء المجلس مع التكنولوجيا الحديثة، حيث لا يتجاوز عدد النواب الذين يستخدمون الأجهزة اللوحية الإلكترونية الموزعة عليهم أصابع اليد الواحدة، بينما تواصل الغالبية العظمى اعتماد الوسائل التقليدية.
كما يُسجل عدم اللجوء إلى التصويت الإلكتروني في الجلسات التشريعية، وهو عنصر أساسي في التحول الرقمي، حيث يعتبر متتبعون أن عدم تبني هذا النظام يحرم المجلس من فرصة تعزيز الشفافية وضمان الدقة في عمليات التصويت. إضافة إلى ذلك، يفتقر العديد من الأعضاء، وخاصة الذين يتوفرون على مستوى دراسي محدود، إلى التدريب المستمر على الأنظمة الرقمية، مما يزيد من الفجوة بين التطور التكنولوجي وقدرتهم على استخدامه بفعالية.

ومن النواقص الأخرى التي تواجه تعميم الرقمنة بمجلس النواب، محدودية التطبيقات التفاعلية التي تتيح للمواطنين التواصل المباشر مع النواب، كما أن قنوات التفاعل مع المواطنين لا تزال بحاجة إلى تحسين وتوسيع، بما يضمن إشراك الرأي العام في العملية التشريعية بشكل أكثر فاعلية. ويلاحظ أن الفجوة بين المواطنين والنواب ما زالت قائمة، مما يقلل من مستوى الشفافية ويحد من قدرة المواطنين على التأثير في القرارات السياسية والتشريعية.
في هذا الإطار، دعا الباحث في التطوير الرقمي والمعلوماتي حسن خرجوج إلى تبني أنظمة الذكاء الاصطناعي في العمل البرلماني لتحسين أداء المؤسسة التشريعية وتعزيز شفافيتها. وأوضح أن استخدام أدوات تحليل البيانات المتقدمة سيساعد في اتخاذ قرارات أكثر استنارة، سواء في صياغة القوانين أو تحديد الأولويات التشريعية بناء على احتياجات المجتمع، مؤكدا أن اعتماد هذه التقنية سيُسهم في تعزيز ثقة المواطنين، وتمكين الشباب من المشاركة الفعّالة، وتحقيق برلمان أكثر كفاءة وشفافية.
وطرح الخبير المعلوماتي حسن خرجوج، في تصريح لجريدة “العمق”، حلولا لتعزيز التفاعل بين المواطنين والبرلمان باستخدام تطبيقات مثل “الشات بوت”، التي توفر قنوات مباشرة لطرح الاستفسارات والحصول على ردود فورية، مشيرا إلى أهمية تطوير قدرات النواب والعاملين في البرلمان عبر منصة تدريبية رقمية تُخصص لتعزيز استخدامهم للتقنيات الحديثة، ما يساهم في رفع كفاءة الأداء العام للمؤسسة.
وشدد خرجوج على ضرورة إنشاء قاعدة بيانات مفتوحة لتقييم الأثر الاجتماعي والاقتصادي لكل قانون جديد، بما يضمن جودة التشريعات وتوافقها مع أهداف التنمية، داعيا إلى بناء نظام معلومات متكامل يربط البرلمان بالوزارات المختلفة، لتسهيل تدفق المعلومات وزيادة كفاءة العمل البرلماني.
ورش مفتوح
تشكل تجربة مجلس النواب في التحول الرقمي نموذجا رائدا في تحديث العمل البرلماني، حيث انتقل من وسائل تقليدية بدائية إلى منظومة رقمية متكاملة تشمل رقمنة الأرشيف، وتدبير الأسئلة والنصوص التشريعية، وتطوير البنية التحتية الرقمية، وتعزيز التواصل مع المواطنين. وقد ساهم هذا التحول في تحسين الأداء المؤسسي، وترشيد الموارد، وتعزيز الشفافية. ومع بقاء بعض التحديات المرتبطة بالفجوة الرقمية، يظل هذا الورش مفتوحا على إمكانيات واعدة، تمكن البرلمان من مواكبة التطورات التكنولوجية، وترسيخ دوره كمؤسسة تشريعية منفتحة، فعالة، ومتصلة بمحيطها المجتمعي والوطني.
اترك تعليقاً