الراب ليس الأزمة… بل مرآة الأزمة

تمرّ مجتمعاتنا، في هذا العصر المتسارع، بأزمة هوية ثقافية عميقة. فهي من جهة تطمح إلى الحداثة، ومن جهة أخرى تتمسك بموروثات أخلاقية تراها حصنًا أخيرًا في مواجهة التفكك. لكن هذا التوتر الدائم بين ما نريد أن نكونه، وما نتصور أنه يجب أن نكونه، يخلق حالة مزمنة من الازدواجية الثقافية. ازدواجية تُفضّل إنكار المشاكل بدل مواجهتها، وتُغذي خطاب الإدانة بدل النقد، وتبحث عن مشجب تُعلَّق عليه الأزمات، عوض مساءلة الأسباب.
في هذا السياق، يصبح الفن، لا سيما الفنّ المتمرد الخارج عن النسق التقليدي، هدفًا سهلاً للهجوم. إذ بدل تحليل الرسائل، يُهاجَم الرسل. وبدل فهم الخلفيات، يُسارع إلى التحريم. وهكذا تحوّل الراب، في نظر بعضهم، من فنّ تعبيريّ إلى “خطر أخلاقي”، ومن وسيلة للبوح إلى أداة للهدم، وكأن المشكلة تبدأ وتنتهي عند كلمات أغنية، لا في واقعٍ اجتماعيٍّ متشظٍّ.
إن الراب، تحديدًا، ليس أكثر من صدى. صدى لما يعيشه جيلٌ نشأ في ظل التفاوت، وانكشاف الوعود الكاذبة، وغياب التمثيل الحقيقي في الخطاب الرسمي. هذا الجيل، المحاصر بالفقر الرمزي والمادي، لا يجد ذاته في الأغنية الرومانسية، ولا في المديح الإنشائيّ لزمنٍ لم يعشه. بل يبحث عن لغة تعبّر عن صوته كما هو: غاضب، مشوّش، ساخر، ومفتوح على الاحتمال.
وفي الولايات المتحدة، حيث نشأ الراب في أوساط السود المهمّشين في برونكس ونيويورك ولوس أنجلوس، لم يُنظر إليه يومًا على أنه خطر ثقافي، بل تم التعاطي معه – رغم الجدل – باعتباره مرآة حقيقية لأحياء مسحوقة لم تكن تملك منابر تعبير. فحين ردد توباك شاكور، في تسعينيات القرن الماضي، أغاني تتحدث عن المخدرات والعنف، لم يكن يروّج لهما، بل كان يكتب سيرة المكان الذي نشأ فيه. وحين غنّى كيندريك لامار عن “العدالة العرجاء” و”الهوية السوداء”، لم تمنعه تلك الصراحة من أن يُمنح لاحقًا جائزة “بوليتزر” عن ألبومه DAMN، ليصبح أول فنان راب ينال جائزة أدبية مرموقة، فقط لأنه قال الحقيقة بلغة الشارع.
وحتى في السياق السياسي، لم يكن الراب على هامش الفعل. فقد استخدم الرئيس باراك أوباما كلمات أغاني مغني الراب جاي-زي وإمينيم في حملاته، لا لتجميل خطابه، بل لإيصال رسالة: أن ما يعبّر عنه الراب لا يقل شرعية عمّا يقال في القاعات الرسمية. لم يكن هذا اعترافًا بالراب، بقدر ما كان اعترافًا بأن التهميش حين يُغنّى، يصبح قوة سياسية.
وما يثير السخرية في واقعنا، أن من ينتقدون “الانفلات الأخلاقي” في الراب، لا يرون الانفلات ذاته في السياسة، أو التعليم، أو الإعلام، أو الشارع. لا يرونه في الشتائم اليومية في وسائل التواصل، ولا في الرداءة التي تُغرق الفضاء العام. وكأن الفن، وحده، هو من عليه أن يُربّي، ويهذّب، وينقذ ما فشلت فيه الدولة والأسرة والمؤسسات.
من هنا، فإن اختزال ظاهرة الراب المغربي في “تفاهة” فنية، أو “انحدار أخلاقي”، لا يُعدّ موقفًا نقديًا، بل هروبًا من الأسئلة الكبرى: لماذا أصبح هذا النوع من التعبير هو الأوسع انتشارًا؟ لماذا أصبحت كلماته، ولو قاسية، أكثر صدقًا من بيانات النخب وخطب المسؤولين؟ ولماذا وجد الشباب في الراب لغة أقرب إلى وجدانهم من كل ما يُقدّم لهم رسميًا؟
إنّ حالة الهجوم على مغني الراب المغربي “طوطو”، لم تكن في حقيقتها سوى مواجهة مصغّرة بين من يريد السيطرة على الفضاء الثقافي بمنطق الوصاية، وبين جيل لا يقبل أن يُصادَر صوته. طوطو لم يخرج من مؤسسات الفن التقليدي، ولم تُصقله جوائز الدولة، بل خرج من الهامش، من الواقع، من العدم تقريبًا، وقال ببساطة: “أنا حرّ”.
هذه الكلمة، بحد ذاتها، أربكتهم. أربكهم أن يغني دون إذن، أن يتحدّث دون قيد، أن يصعد المنصة دون ترخيص. وحين قدّم عرضه على منصة السويسي وأهداه لرواد الراب الأوائل، لم يكن يُمارس استفزازًا، بل كان يكرّس شرعية ثقافية لفنٍّ يُعبّر عن قطاع واسع من هذا الجيل.
الراب ليس مدرسة أخلاق، ولم يدّعِ ذلك. بل هو وثيقة احتجاج، وأحيانًا صرخة ألم، ومرآة لواقع لا يُجمّله صاحبه لأنه يعرف أن التجميل لا يُغيّر الندوب. لا يصلي الرابر، بل يصرخ. لا يُبارك، بل يلعن. وبهذا المعنى، فهو يُمارس وظيفة نقدية يهرب منها الجميع.
إن أردنا محاربة “الانحراف”، فليكن ذلك في السياسات العمومية، في المدارس، في الإعلام، في القيم اليومية. أما محاربة الأغنية، فذلك ليس إلا اعترافًا ضمنيًا بالعجز، ومحاولة لتغطية الفشل برداء الغيرة الأخلاقية.
وفي النهاية، سيبقى الراب ما دام الواقع صاخبًا. وسيبقى طوطو ما دام هناك من لا يريد سماع الحقيقة إلا إذا قيلت بلغة ناعمة. ولكن من قال إن الألم يبوح بالهمس؟
تعليقات الزوار
احسنت التشر ...فعلا المشكل ليس في الراب ولكن الراب كفن يعبر عن ازماتنا