هل يستقيم “الفكر الحر” بلا إيمان بالحرية للجميع؟

يعتبرونه “صوت” الدولة العميقة، ورجل “التبشير الخطابي” بالصيغة المغربية من الاتفاقات الإبراهيمية التي أطلقت يد بنيامين نتنياهو واليمين المتطرف الإسرائيلي في تغيير الجغرافيا السياسية والثقافية بين الخليج والمحيط. وقد يُصنّف أحيانا ضمن دبلوماسية المسار 1و1/2 Track One and a Half، في سياق ما يدور في الكواليس بين وزارة الخارجية وأجهزة الاستخبارات الخارجية ومكتبي الاتصال بين الرباط وتل أبيب ضمن مثلث علاقتيهما مع واشنطن ترمب.
قد يعكس تقلب مزاج صديقنا في الكتابة حاليا بمرجعية “الفكر الحرّ”، وهو القائل: “والدبلوماسية تعيد ابتكار أدواتها تحت ضغط الواقع، لا تزال عقول متحجّرة تتشبث بشعاراتها البالية” مزاج بعض الرؤوس في مراكز القرار في ظل تعثرات مسار التطبيع بين قبول الدولة ورفض المجتمع في المغرب.
تعكس نبرة المقالة موقفا دفاعيا يسعى لإسقاطات ذاتية بزوال “زمن التساهل الاستراتيجي” إزاء إيران، وحرصه على “أن تكون الكلمة الحرة أساسًا لنقاش ناضج”، فضلا عن تلويحه بأن “العدالة للفلسطينيين ليست بندًا تفاوضيًا، بل شرطًا لا غنى عنه لأي سلام حقيقي، دائم، ومُعترف به من الجميع.” اللهم أبشر وأكرم… على طريق الهداية السياسية وإن تباطأ موسمها للمراجعة والتقويم في السياق المغربي!
يتناسى صديقنا الذي يلوم منتقديه على أنهم يسعون “لفرض وصاية أيديولوجية” أنه كان السبّاق إلى هذه البدعة عندما نشر مقالته “كلّنا إسرائيليون”، ولم يتوخّ الدّقة بالقول: “أنا إسرائيلي”، دونما تهوّر في تنصيب نفسه “ممثلا” أو “ناطقا” عن حال 36 مليون مغربي في الداخل و5 ملايين آخرين في مئة دولة من دول الشتات.
وتوالت الأشهر العشرون بعد السابع من أكتوبر 2023 بسلسلة مظاهرات متواترة في الرباط وبقية مدن المغرب. وتأكد له ولبقية المبشرين ب”مغرب إبراهيمي بديل” أن الأغلبية العظمى من المغاربة يعارضون التطبيع بشدة وحتى النخاع، وأن حلقة السماع لخطب شيخ هذه الزاوية المستحدثة لا تتجاوز بضعة آلاف من المريدين الداعين لأن تتقلص الاستراتيجية المشرقية للمغرب عند تازة فقط.
عندما يتمسك صديقنا بأن مقولته “كلّنا إسرائيليون” لم تكن “موقفًا سياسيًا، ولا انحيازًا أيديولوجيًا، بل كان صرخة ضمير في وجه اللامعقول”، فإنه يضع نفسه في “خانة اليكّ” بتعبير أصدقائنا الشّوام، أو بالأحرى يكشف تناقضه مع ذاته في صميم “صرخة الضمير” أو “الشهامة الإنسانية” التي يدافع عنها. عندما قتل جنود نتنياهو أكثر من 50000 من المدنيين، بمن فيهم أطفال ونساء ومسنّون فلسطينيون في قطاع غزة، لم يتحرك ضمير صديقنا المتصالح مع ذاته، ولم يشعر بالأرق الإنساني ليكتب من ذات الروح النبيلة ومن قلب الضمير الحي الملتهب مقالة أخرى: “كلّنا فلسطينيون”!
لا يمكن أن تكون “صحوة الضمير” أو القيم الإنسانية موضع خيارات انتقائية حسب المقاس، ووفق المزاج، وتبعا للمصلحة السياسية أو العقيدة الأيديلوجية. ولم يعد ممكنا تبرير الإفلاس السياسي والفشل الثقافي للمشروع الإبراهيمي في المغرب في بقية 2025، خاصة في عز عودة دونالد ترمب إلى تولّي الرئاسة في البيت الأبيض، ووسط استمرار رفض الملك محمد السادس مقابلة بنيامين نتنياهو، كما كان الحال عام 2020.
قد تتشنج بعض جيوب المقاومة والإصرار على استدامة خطاب التطبيع والنفخ في عائداته الأمنية والاستخباراتية، وتمطيط خطاب التبرير بأن التطبيع مع إسرائيل ضرورة من ضرورات إدارة الصراع في الصحراء وردع التهديد الذي يميل إليه كثير من النخبة الأمنية بقيام حرب محتملة مع الجيران.
يوجّه صديقنا انتقاداته إلى من يعتبرهم “يختارون مهاجمة أولئك الذين يفكرون بطريقة مختلفة، بدلًا من مساءلة صُنّاع الحروب الحقيقيين.” لكنه لا يفطن إلى أنه لا يستطيع أن يفرض مشروعه التطبيعي على أغلب المغاربة الذين يفكرون بطريقة مختلفة أيضا، وأن من الأجدى به ومن يقف خلفه التمعن في حقيقة أن الشعوب هي صانعة الإرادة ومحدّدة الخيارات الاستراتيجية الحقيقية!
لم تعد المحصلة النهائية لدى المغاربة من قضية فلسطين واحتلال إسرائيل مسألة إنزال سياسي بفعل تيار الأمننة والزّج بمنتقدي التطبيع في السجن، بل كشفت تصريحات نتنياهو نفسه نواياه الحقيقية وكيف يستخف بالنخب السياسية في شتى العواصم بما فيها القاهرة وعمان وأبوظبي والمنامة والخرطوم والرباط.
قال نتنياهو علنًا خلال مقابلة تلفزيونية الشهر الماضي: “عندما أُقيمت دولة إسرائيل، واجهنا عالمًا عربيا موحّدا، لكننا تمكّنا تدريجيا من تفكيك وحدته وتقسيم الصف العربي.” أليس من الأجدى أن يتوقف صديقنا عند هذه العبارة المحورية ويضعها في الحسبان ضمن مساعيه لتعميق مستوى التطبيع الثقافي والإعلامي بين المغاربة؟!
تكبر المفارقة في مدى إلمام صاحب مقولة “كلّنا إسرائيليون” أيضا بمنطق إذا كان لا يعلم، فتلك مصيبة. وإذا كان يعلم بما كشفه نتنياهو، فتلك مصيبة جلل وأعظم! يجادل صديقنا بالقول: “الشعوب ليست ساذجة. وهي تُفرّق تمامًا بين الالتزام الصادق والاستغلال الانتهازي.”
هي موعظة برّاقة تُرَدّ إلى صديقنا وأصدقاء صديقنا بصيغتها الأصلية: المغاربة شعب ليس ساذجا ولا قابلا للتغفيل أو التضليل، ويعرف معرفة اليقين أن مشروع التطبيع والاتفاقات الإبراهيمية سلعة سياسية فاسدة في أصلها وفاحت رائحتها بفعل حرّ الخليج في صيف 2020.
يتنفس المغاربة نسائم كل من المتوسط والأطلسي، ويعرفون جيدا مغزى الفكر الحرّ الحقيقي، وليس المزيف والمحاك بسرديات براقة عن “الضمير” و”الإنسانية”.
اترك تعليقاً