خطاب العرش 2025: نداء العرش.. لبناء مغرب الإنسان

جاء الخطاب الملكي السامي، بمناسبة الذكرى السادسة والعشرين لاعتلاء جلالة الملك محمد السادس عرش أسلافه، حافلًا برؤية استراتيجية متكاملة، تُزاوج بين صيانة السيادة الوطنية، وتعزيز العدالة الاجتماعية، والتأصيل لعلاقات جوار قائمة على الحكمة والوحدة.
خطاب وضع الإنسان المغربي في قلب النموذج التنموي الجديد، واعتبر أن كرامته، وإنصافه، واستفادته العادلة من ثمار التقدم، هي المعيار الحقيقي لكل السياسات العمومية.
1. اليد الممدودة… دعوة صادقة لتجاوز الجمود المغاربي
“بصفتي ملك المغرب، فإن موقفي واضح وثابت؛ وهو أن الشعب الجزائري شعب شقيق… لذلك، حرصت دوما على مد اليد لأشقائنا في الجزائر، وعبرت عن استعداد المغرب لحوار صريح ومسؤول.”
بهذه العبارة الصريحة، يؤكد جلالة الملك أن سياسة المغرب تجاه الجزائر لا تنبع من موقف ظرفي أو رد فعل سياسي، بل من قناعة راسخة بوحدة الشعوب المغاربية. الخطاب يتجاوز الحساسيات الثنائية ليرتقي إلى مستوى نداء إنساني وتاريخي، يعيد الاعتبار لمفهوم “المصير المشترك” الذي يربط المغرب والجزائر وسائر الدول المغاربية.
إن دعوة جلالة الملك للحوار ليست مشروطة، بل مشبعة بروح المسؤولية والتاريخ، حيث يشير إلى أن “الالتزام باليد الممدودة” نابع من الإيمان بإمكانية بناء مغرب كبير، قوي، ومتماسك، بعيدًا عن منطق “المنتصر والمنهزم”.
2. السيادة الوطنية… رصيد من الشرعية والثقة الدولية
“وبقدر اعتزازنا بهذه المواقف، التي تناصر الحق والشرعية، بقدر ما نؤكد حرصنا على إيجاد حل توافقي، لا غالب فيه ولا مغلوب، يحفظ ماء وجه جميع الأطراف.”
جلالة الملك لا يكتفي بالاعتزاز بما تحقق في ملف الصحراء المغربية من دعم دولي متزايد، بل يربط هذا التقدم الدبلوماسي برؤية واقعية ومسؤولة في حل النزاع. الخطاب يعلن بوضوح أن المغرب لا يبحث عن انتصار سياسي، بل عن حل مستدام يحقق العدالة ويصون كرامة الجميع.
وإذ يشيد بمواقف دول كالمملكة المتحدة والبرتغال في دعم مبادرة الحكم الذاتي، فإنه يذكر بأن الانتصار المغربي ليس عسكريًا أو إعلاميًا، بل ناتج عن ثقة العالم في استقرار المملكة ومشروعية مقترحاتها.
3. العدالة المجالية… مفتاح التوازن الوطني
“لا يمكن أن أكون راضيا، مهما بلغ مستوى التنمية الاقتصادية، إذا لم تساهم في تحسين ظروف عيش المواطنين، في جميع المناطق والجهات.”
في هذا التصريح البالغ الصدق، يضع جلالة الملك العدالة المجالية كشرط أساسي لأي تقدم حقيقي. فلا تنمية تُحترم ما لم تنعكس على المواطن في معيشه اليومي، سواء في الحواضر الكبرى أو في القرى والمناطق المهمشة.
الخطاب يعبّر عن قناعة ملكية بأن مغرب اليوم لا يقبل بالازدواجية: مغرب بسرعتين، أو مغرب فيه “مواطن من الدرجة الأولى” وآخر من الدرجة الثانية. بل يطالب بنقلة نوعية تُدمج كل الجهات في قاطرة التنمية، من خلال برامج ترابية مندمجة، تُثمّن الخصوصيات وتقوم على التضامن المجالي.
4. الاقتصاد المغربي… صعود في زمن الأزمات
“ورغم توالي سنوات الجفاف، وتفاقم الأزمات الدولية، حافظ الاقتصاد الوطني على نسبة نمو هامة ومنتظمة، خلال السنوات الأخيرة.”
رغم التحديات المناخية والاضطرابات الاقتصادية الدولية، يبرز الخطاب الملكي مرونة الاقتصاد المغربي وقدرته على الصمود، بل وتحقيق قفزات نوعية في قطاعات صناعية استراتيجية.
وإذ أشار جلالته إلى تضاعف الصادرات منذ 2014، في قطاعات السيارات والطيران والطاقات المتجددة، فقد وضع ذلك ضمن رؤية وطنية مدروسة لا تخضع للمفاجآت، بل ترتكز على التخطيط بعيد المدى، وعلى تنويع الشركاء والأسواق.
كما أعلن عن مشروع الخط فائق السرعة بين القنيطرة ومراكش، مؤكدًا أن البنية التحتية ليست غاية، بل وسيلة لتحقيق التنمية العادلة وربط مختلف جهات المغرب برؤية واحدة.
5. الخيار الديمقراطي… ترسيخ الثقة وتجديد المؤسسات
“أعطينا توجيهاتنا السامية لوزير الداخلية، من أجل الإعداد الجيد للانتخابات التشريعية المقبلة، وفتح باب المشاورات السياسية مع مختلف الفاعلين.”
بهذا التوجيه، يُعيد جلالة الملك التأكيد على أن الديمقراطية في المغرب ليست مجرد واجهة، بل مسار مؤسساتي متكامل، تُحترم فيه المواعيد، وتُشرك فيه الأطراف، ويُبنى فيه التوازن بين السلطات.
كما يحرص الخطاب على أن تكون الانتخابات المقبلة مناسبة لتقوية الثقة في المسلسل السياسي، وتحفيز المشاركة الواعية، ومراجعة المنظومة الانتخابية في إطار حوار وطني مفتوح ومسؤول.
خاتمة: مغرب الإنسان… مشروع دائم لا يتوقف
“هدفنا أن تشمل ثمار التقدم والتنمية كل المواطنين، في جميع المناطق والجهات، دون تمييز أو إقصاء.”
** من هندسة البنيان إلى هندسة الإنسان
خطاب العرش هذا العام لم يكن وثيقة عابرة في زمن السياسة، بل مرآة صادقة تعكس جوهر المشروع الوطني حين يقوده وعيٌ ملكيٌّ نادر.
كل جملة تُعيد ترتيب المعنى حول الإنسان: لا كرقم في الإحصاء، بل كغاية لكل إصلاح، وروح لكل نهضة.
جلالة الملك، نصره الله وأيده، لم يكتفِ برسم معالم التنمية، بل أعاد ضبط البوصلة نحو المبدأ:
لا جدوى من التقدّم إن لم يُشعر به المواطن في قريته النائية،
ولا معنى للعمران إن ظلّت الفوارق تعلو على العدالة،
ولا قيمة للمنجز إن لم يكن عادلًا في أثره، إنسانيًا في غايته.
ليس ما ورد في الخطاب مجرد كلمات تؤثث مناسبة وطنية، بل نداء استراتيجي لإعادة ترتيب أولويات الدولة حول جوهرها الحقيقي: الإنسان.
في كل فقرة، تجلّت حكمة البناء على مهل لا على عجل؛ على اليقين لا على الانفعال؛ على الإنصاف لا على الإقصاء.
لقد وضع جلالة الملك، مرة أخرى، البوصلة حيث يجب أن تكون:
لا في اتجاه المظاهر، بل عمق المعايير؛
لا في توسيع الطرق فقط، بل في تقليص الفوارق؛
لا في تعداد الإنجازات، بل في قياس الأثر على الإنسان.
خطاب لا يُلقي القول في الفراغ، بل يغرسه في تربة الوعي الجمعي، ليذكّرنا أن النهضة لا تُقاس بما نعلنه، بل بما نُنجزه في صمت لصالح من لا يملكون الصوت.
فمن أراد أن يبني مغرب الغد، فليبدأ من حيث يبدأ التاريخ الحقيقي للأمم:
من العدالة قبل القوة،
من الكرامة قبل الأرقام،
ومن الإنسان… قبل كل شيء.
اترك تعليقاً