المساس بالثوابت الدينية.. بين حرية التعبير وحدود المسؤولية

شهدت الساحة المغربية مؤخرًا جدلًا واسعًا عقب التصريحات الأخيرة للناشطة ابتسام لشكر، التي تناولت فيها قضايا تمسّ الذات الإلهية. هذا الجدل، الذي تصاعد بسرعة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، يطرح مجددًا السؤال الأزلي: إلى أي حد يمكن لحرية التعبير أن تمتد، وأين تبدأ مسؤولية الكلمة في مجتمع ذي هوية دينية راسخة؟
حرية التعبير، كحق إنساني، تعتبر من أعمدة أي نظام ديمقراطي. غير أن هذا الحق ليس مطلقًا في أي منظومة قانونية أو ثقافية في العالم، إذ تحكمه ضوابط تحمي السلم الاجتماعي وتحترم خصوصيات المجتمعات. ففي بلد كالمغرب، حيث الإسلام يشكل جزءًا من الهوية الوطنية والثقافية، يُعتبر المساس بالذات الإلهية ليس فقط تجاوزًا دينيًا، بل مسًّا بالوجدان الجمعي للمغاربة.
من المهم أن ندرك أن القوانين في المغرب، شأنها شأن العديد من الدول، تضع قيودًا واضحة على التعبيرات التي يمكن أن تُفهم كتطاول على الدين أو الرموز المقدسة. هذه القيود ليست، كما يروّج البعض، أداة لقمع الحريات، وإنما آلية لحماية الانسجام الاجتماعي، خاصة في مجتمعات لا تزال القيم الروحية والدينية فيها متجذرة بعمق.
المسألة إذن ليست صراعًا بين الحداثة والمحافظة، بل بين فهمين لحرية التعبير: فهم يعتبرها ساحة مفتوحة بلا قيود، وفهم آخر يراها ممارسة مشروطة بالاحترام المتبادل. وتجارب الدول تثبت أن إطلاق العنان للخطاب المثير للفتنة قد يفتح أبوابًا من التوتر والانقسام لا تُغلق بسهولة.
من جانب آخر، يطرح هذا الجدل سؤالًا حول حدود النقد المشروع للدين، وما إذا كان من الممكن مناقشة القضايا العقائدية في فضاءات فكرية أو أكاديمية دون استفزاز مشاعر المؤمنين. ففي المجتمعات الناضجة ديمقراطيًا، يكون النقد العلمي والفلسفي ممكنًا ومشروعًا، لكن شرط أن يُقدَّم في سياق احترام الرموز وعدم تحويله إلى استفزاز أو تهجم مباشر.
إن التحدي الأكبر أمام المغرب اليوم هو الموازنة بين حق الأفراد في التعبير عن آرائهم، وبين حق المجتمع في حماية ثوابته الدينية والثقافية. وهذه الموازنة تحتاج إلى نقاش وطني هادئ، بعيد عن الانفعال، يعيد صياغة مفهوم الحرية بما يتناسب مع السياق المغربي، دون انغلاق على العالم ودون استيراد نماذج غريبة عن بيئتنا.
في النهاية، لا أحد ينكر أن حرية التعبير ركيزة أساسية لأي تقدم، لكن الحرية التي تتحول إلى أداة لاستفزاز المعتقدات ليست سوى شكل آخر من أشكال العنف الرمزي. والرهان الحقيقي هو أن نصل إلى مرحلة نمارس فيها حرياتنا بوعي ومسؤولية، لا أن نحولها إلى وقود لصراعات لا تنتهي.
اترك تعليقاً