الجغرافيا والتاريخ معا يخفران “الحكم الذاتي” في الصحراء المغربية…

البوليساريو، تعبُر “الهزيع” الأخير من عمرها، كجماعة انفصالية… وأمامها خياران… أن تتحلَّل وتندثر أو تتحوَّل إلى حزب سياسي. يندمج، مع أحزاب سياسية أخرى، في مسار إرساء تدابير الحكم الذاتي للأقاليم الصحراوية المغربية… الأقاليم، التي أفلست محاولات البولساريو، على مدى نصف قرن، بفصلها عن المغرب…
عبور هذا “الهزيع” الصّعب قد يطول… قد يكون عسيرا… وقد يكون مُؤلمًا حتى… وبالإمكان أن يكون سلِسا وعلى مدى زمني قصير… قيادة الجزائر -لأنها الراعي الرسمي للبوليساريو- وعلى مدى نصف قرن هي مَن سيُقَرِّر نوعية العبور. مداه الزمني وكلفتُه الاجتماعية والأمنية على البوليساريو وعلى المنطقة… المؤكد، الذي لا يُخطئه التحليل الموضوعي، أن العُمر الافتراضي للجماعة الانفصالية انتهى، بل جاوز حدّه… ذلك ما يُعلنه المجتمع الدولي ويتّجه إلى إقراره عبر الأمم المتحدة من خلال مجلس الأمن في اجتماعه المُقرر لنهاية أكتوبر المقبل… أو في اجتماعات قريبة وبالصّيغة التي يُقررها الاجتماع نفسه…
المجتمع الدولي وبأغلبية أزيد من 130 دولة… أغلبية في تزايد نشيط… “قريبا” ستنضم إليها جنوب إفريقيا وبوليفيا، وهما من الدائرة الضيِّقة الداعمة للبوليساريو… أغلبية، دولة دولة، بكل المقاييس… الكبيرة الوازنة، المتوسطة الفاعلة أو الصغيرة المؤثرة… علا صوتُها مُطالبة بالحلِّ السلمي، الدائم والواقعي لنزاع الصحراء المغربية، مُعتبرة أن أساسه الجدِّي والوحيد هو مقترح الحكم الذاتي الذي تقدم به المغرب وأقنع به… على مدى قرابة عقدين…
تلك الأغلبية تتجه إلى وضع قناعاتها على مسار التحقُّق… الأمين العام للأمم المتحدة السيد غوتيريش، ألح، في تقريرٍ له، نُشر مؤخرا، “على ضرورة الحل السياسي للنزاع لوقفه بعد أن طال لحوالي نصف قرن، ويُهدد المنطقة في أمنها واستقرارها”… وفي دعوته تلك، لم يورد قط كلمة “الاستفتاء”… لأن الأمم المتحدة هي التي أسقطته من قاموسها قبل حوالي عقدين…
على نفس الخط تبدو الإدارة الأمريكية مُتحمسة لتوفير شروط إنزال مقترح الحكم الذاتي لحل النزاع… وتلك الإدارة هي، في مجلس الأمن حاملة القلم لصياغة القرارات المتعلقة بالصحراء المغربية. فضلا عن حاجة الرئيس ترامب لإخماد نزاع، هو على هامش أولوياته في مقاربة النزاعات الدولية الملتهبة… يراه مجرد نزاع شغب مشوِّش… أو كما قال الملك الحسن الثاني مرة، مجرد “حصى” في “حذاء” المنطقة…
مقترح الحكم الذاتي هو اليوم اختيار دولي أو مطلب دولي ملح… لسلميته ولواقعيته ولأنه يُتيح للجزائر أن تتخلَّص من حملها، لنصف قرن، ولأعباء وهم “دُوَيلة” جديدة في المنطقة، بدون تكلفة معنوية… ما يمكِّن المُجتمع الدولي من ربح تكامل وتعاون مغربي جزائري، تحتاجه المنطقة، رافعة للسلام والأمن فيها وحاضنة للإفادة الدولية الاقتصادية منها… وهي منطقة مهددة في أمنها وغنية بثرواتها…
كل الدول الوازنة في القرار الدولي لم تعترف “بالجمهورية الورقية”… لا الإدارة الأمريكية ولا روسيا ولا الصين ولا الدول الأوروبية ولا اليابان ولا الأمم المتحدة… كلها يزعجها العداء الجزائري للمغرب… “يُتعبها” التوتر بين البلدين، ولهما مكانتهما إفريقيا وعربيا ومتوسطيا، بما يفرض عليها من تمرينات دقيقة وصعبة للحفاظ على توازن علاقاتها معهما… وعلى مدى عشرات السنوات… وتلك حالة فرنسا التي ضيقت عليها الجزائر مساحات المناورة ورياضة التوازن… بينما، نفس القيادة الجزائرية، ابتلعت تغليب الإدارة الأمريكية للمغرب على الجزائر في مراعاة مصالحها…
الإلحاح الأمريكي على الانحياز للحق الوطني المغربي ليس مجرد مجاملة للمغرب… هو سياسة، لم تتراجع عنها إدارة الرئيس الديمقراطي بايدن، ويتجه الرئيس الجمهوري ترامب إلى تصريفها في واقع نزاع الصحراء…
الرئيس ترامب أوفد، مسعد بولس، مستشاره للشؤون الإفريقية والشرق الأوسط إلى الجزائر، نهاية يوليوز الماضي، ليضع قيادة الجزائر في صورة مشروع تعويض المينورسو، القوات الأممية في الصحراء المغربية، بآلية أممية جديدة تحت اسم “مانساسو”… المينورسو كانت مكلفة بمراقبة وقف إطلاق النار ومواكبة إجراء الاستفتاء في الصحراء المغربية… ثبت للأمم المتحدة بالملموس استحالة إجراء الاستفتاء… بعد حوالي عقدين من إبعاد خيار الاستفتاء… وبعد ثمانية عشرة سنة من إطلاق مقترح “الحكم الذاتي”، وما بلغه من هذا التبني الدولي الواسع له، يجري الآن بلورة مقترح إحداث آلية دولية تعنى بمواكبة تفعيل حل الحكم الذاتي للنزاع…
الإدارة الأمريكية متحمسة، لإنهاء مهام المينورسو وإنشاء آلية “مانساسو”… في اجتماع مجلس الأمن لأكتوبر المقبل، للإعلان الرسمي عن الامتلاك الأممي لمقترح الحكم الذاتي، في تطابق مع الدعم الدولي له، وهو ما يعني تثبيت السيادة المغربية على الأقاليم الصحراوية موضوع النزاع، باعتبارها الإطار الوحيد الذي يسري داخله الحل المأمول لنزاع طال نصف قرن… وبذلك يسقط وهم الانفصال في متلاشيات التاريخ، وتكون البوليساريو أمام خيارين، أن تصاحب وهمها إلى ما سيرمى نفسه فيه، أو أن تستعيد الجينة الأصلية لنشأتها، في بداية سبعينيات القرن الماضي، قبل السطو عليها من جهة الرئيس الجزائري هواري بومدين وتحويلها إلى تركيبة انفصالية… أي أن تلتحق بمسار إقرار الحكم الذاتي في ديناميكيتة ديمقراطية داخل النسيج السياسي والاجتماعي لسكان الأقاليم الصحراوية الجنوبية للمغرب.
دورة الجمعية العامة للأمم المتحدة، التي ستفتتح يوم 9 سبتمبر، ستكون مناسبة لتأكيد خلاصة أن الأغلبية الواسعة للدول الأعضاء تُناصر مقترح الحكم الذاتي في مقاربة نزاع الصحراء المغربية، في مقابل قلة الدول التي تجامل الجزائر في دعمها للبوليساريو، وهي ماضية إلى التناقص… المناقشات الأممية بذلك المضمون ستصب في اجتماع مجلس الأمن لنهاية أكتوبر المقبل، لتنشر داخله جوا من قابلية تطوير قرارات مجلس الأمن الأخيرة إلى التبني الصريح لمقترح الحكم الذاتي، عبر إقرار إنشاء آلية “مانساسو”…
ولا يتوقع أن تمارس روسيا “اعتراضا” أعلى من الامتناع عن التصويت على ذلك القرار… هذا إذا لم يحدث تطور نوعي في موقفها من النزاع خلال الأسابيع القليلة المقبلة… والمرجح أن يقرب ما بين المغرب وروسيا أكثر…والمهم أن المقترح يصبح قرارا…
إقرار الآلية الأممية الجديدة في الصحراء المغربية لا يعني فورا نهاية النزاع… يعني بداية مسار إنهائه… مسار قد يطول وقد يقصر بحسب ما سيكون رد فعل الجزائر… إنما هو مسار منطلق وغير قابل لوقفه ولا يتيح الزخم الدولي الدافع لمقترح الحكم الذاتي لا استمرار جمود الوضع ولا للعودة إلى الوراء… مقترح الحكم الذاتي مفتاح مستقبل آخر للمنطقة عموما، ومساهمة في الدفع بالإرادة الدولية لتأمين شمال إفريقيا وجنوب المتوسط، وخلق فرص النماء لكل شعوبها… وبذلك المغرب يكون في الموقع الإيجابي لذاته ولغيره.
اترك تعليقاً