
في سجلات الشركات المغربية الكبرى، قليلون هم من استطاعوا أن ينسجوا شبكة هائلة من النفوذ والسيطرة بحجم تلك التي بنتها شركة “أوزون”. فإلى حدود عام 2021، لم تكن “أوزون” مجرد شركة لتدبير النفايات، بل كانت بمثابة إمبراطورية صامتة للنظافة، بسطت هيمنتها على أرجاء المملكة من أقصاها إلى أقصاها.
كانت بصمتها واضحة في كل زاوية تقريبا، إذ كانت شرايين عملياتها تمتد لتغطي أكثر من 50 مدينة مغربية، نابضة بالحياة والتحديات. لم يقتصر نفوذها على اليابسة فقط، بل امتد ليشمل كل شريان من شرايين الاقتصاد الأزرق، حيث تولت بمفردها مسؤولية نظافة 77 ميناء للصيد البحري على امتداد الساحل المغربي، بالإضافة إلى التحكم في واجهة المغرب الحضارية عبر إدارتها لسبعة مطارات دولية، بما في ذلك بوابات المملكة الجوية الرئيسية في الدار البيضاء ومراكش وأكادير.
كان اسم “أوزون” مرادفا للانتشار الواسع؛ فمن الحواضر الكبرى كفاس، المدينة الروحية والعلمية، وسلا، جارة العاصمة الصاخبة، وصولا إلى مدن محورية مثل سطات وخريبكة واليوسفية، وانتهاء بجواهر الجنوب كبرى كالعيون وكلميم والصويرة، كانت الشركة تتعامل مع عشرات المدن الأخرى، الصغيرة والمتوسطة، بنفس المنطق التوسعي، وتواصل توقيع العقود بثقة المنتصر، لتبدو وكأنها قوة لا يمكن إيقافها، ترسخ أقدامها في كل شبر من تراب الوطن. لكن، وكما لكل صعود ذروة، فإن لكل إمبراطورية لحظة انكسار، وكانت لحظة “أوزون” قادمة لا محالة.
في مطلع عام 2024، ضرب زلزال مدو أسس هذه الإمبراطورية. لم يكن الزلزال كارثة طبيعية، بل كان قرارا قضائيا ألقى بظلاله الكثيفة على مستقبل الشركة بأكمله. تم توقيف عزيز البدراوي، المالك والمدير العام السابق، العقل المدبر وراء هذا الصعود الأسطوري.
جاء الاعتقال كالصاعقة، وتوالت الأحداث بسرعة، لتنتهي بإدانته والحكم عليه بالسجن النافذ لمدة ست سنوات. التهمة كانت ثقيلة؛ “التلاعب في تدبير الصفقات العمومية وخرق القوانين التنظيمية”، في قضية ارتبطت بعقد تدبير نظافة مدينة بوزنيقة، الشرارة التي أشعلت حريقا هائلا التهم كل شيء.
ومنذ تلك اللحظة الفارقة، التي شهدت متابعة البدراوي ورئيس جماعة بوزنيقة السابق محمد كريمين، بدأت حجارة هذا الصرح الكبير تتساقط تباعا. إذ لم يعد اسم “أوزون” يحمل نفس البريق، وبدأت الثقة تتآكل، بعد أن شرعت الجماعات الترابية، واحدة تلو الأخرى، في التخلي عن الشركة. بعضها انتظر بصبر انتهاء مدة العقد ليرفض التجديد، بينما اتخذ البعض الآخر قرارات أكثر جرأة بفسخ العقود قبل أوانها.
وهكذا، بدأت خريطة نفوذ “أوزون” تتقلص بشكل دراماتيكي، وفقدت الشركة حصونها المنيعة في المدن الكبرى والمتوسطة، لتتحول من لاعب مهيمن إلى كيان يكافح من أجل البقاء.
كانت قائمة الخسائر طويلة ومؤلمة. مدن بحجم فاس وسلا وبنسليمان، التي ارتبطت بها “أوزون” لعقد امتد 14 عاما، أدارت ظهرها لها. وكذلك فعلت بوزنيقة، المدينة التي كانت مسرحا لـ “الجريمة الأصلية”، تبعتها سطات، وشفشاون، والصويرة، والمنصورية، والشماعية، وتامنصورت، وكلميم، والعيون، وبوجدور، وغيرها الكثير.
لم يقتصر الانهيار على المدن، بل أكد مصدر موثوق من داخل الشركة لجريدة “العمق” أن الشركة فقدت سيطرتها بالكامل على الموانئ والمطارات أيضا، لتتخلى بذلك عن مواقع استراتيجية كانت يوما ما درة تاج إمبراطوريتها.
اليوم، لم يتبقَ من ذلك المجد سوى حفنة من العقود في جماعات ومدن صغيرة ومتوسطة مثل مرس الخير، تمارة، سيدي رحال، بني درار، الخميسات، الفقيه بنصالح، خنيفرة، وجماعة المشور فاس الجديد، وولاد الطيب، وقلعة السراغنة، وسيدي يحيى الغرب، وسيدي يحيى زعير. وحتى هذه القلاع الأخيرة، كما كشف مصدر آخر، ليست في مأمن، إذ تلوح في الأفق نذر فقدان المزيد منها.
لم تعد تقتصر الأزمة على فقدان العقود فحسب، بل امتدت لتضرب عمق العمليات اليومية للشركة. فحتى في المدن القليلة المتبقية تحت إدارتها، تواجه “أوزون” عاصفة من المشاكل الداخلية التي تكشف عن تخبط مالي وإداري عميق. فالأزبال تتكدس في الشوارع، وتتعالى أصوات الانتقادات من المواطنين، وتتحول الساحات إلى منصات لاحتجاجات العمال الذين يطالبون بأبسط حقوقهم: أجورهم المتأخرة، والتصريح بهم لدى الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي. من تمارة إلى بني درار بالجهة الشرقية، ومن مرس الخير إلى المهدية، ومن سيدي رحال إلى الفقيه بنصالح، تتكرر نفس المشاهد، مما يؤشر على أن الشركة لم تعد قادرة على الوفاء بالتزاماتها الأساسية.
وفي شهر يونيو الماضي، وصلت الأمور إلى نقطة الغليان في تمارة، حيث وجهت الجماعة إنذارا شديد اللهجة للشركة، معبرة عن قلقها من “التدهور المتواصل” لخدمات النظافة، حيث كان هذا الانذار الرسمي كان بمثابة لائحة اتهام، بعد أن سجل خروقات فاضحة؛ أسطول آليات معطل، تأخر في الاستثمارات المتفق عليها، وتجاوز نسبة الأعطاب 10% لمدة تتجاوز الشهر.
وبناء على ذلك، هددت الجماعة بإنهاء العقد بشكل فوري، معتبرة أن أي تساهل قد يرقى إلى “هدر للمال العام” ويتنافى مع مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة. أما في العيون، فقد تلقت “أوزون” الضربة القاضية بفقدانها لواحدة من أضخم صفقاتها على الصعيد الوطني، بعد أن طفح الكيل بالسكان والمسؤولين من تراكم النفايات ونقص الحاويات واحتجاجات العمال المستمرة.
هكذا، وفي غضون أشهر قليلة، تحولت “أوزون” من عملاق يتربع على عرش النظافة في المغرب، إلى شركة مثقلة بالديون والفضائح، تكافح من أجل التقاط أنفاسها الأخيرة، في قصة تروي كيف يمكن لـ”الطمع الجامح” في المال العام أن يهوي بأكبر الصروح، ويحول إمبراطورية مزدهرة إلى أطلال.
اترك تعليقاً