وجهة نظر

مراقبة دستورية قانون المسطرة المدنية: المحكمة تنتفض ضد الإحالات “البيضاء”

في قرارها رقم 25/255 الصادر في 4 أغسطس 2025، صرحت المحكمة الدستورية، بناءً على إحالة من رئيس مجلس النواب، بعدم دستورية مجموعة من مواد ومقتضيات القانون رقم 23-02 المتعلق بقانون المسطرة المدنية.
يجب الإقرار بأن القرار لم يكن مفاجئا، لأن الطابع اللادستوري لمجموعة من الأحكام التي “اختارت” المحكمة مراقبتها كان جليا حتى قبل أن تُؤكد المحكمة عدم دستوريتها، بدليل أنها أثارت عدة انتقادات من بعض البرلمانيين والباحثين القانونيين والمحامين وفي وسائل التواصل الاجتماعي.

الإطار القانوني لمراقبة دستورية القانون:

لقد تم إحداث مراقبة دستورية القوانين العادية بمقتضى دستور 1992 الذي أنشأ كذلك المجلس الدستوري الذي عوض الغرفة الدستورية بالمجلس الأعلى.
ودون الدخول في تفاصيل المسطرة، يجدر التذكير بأن المراقبة المسبقة لدستورية القوانين (أي قبل لإصدار الأمر بتنفيذها) تتخذ شكلين:

– مراقبة إجبارية للقوانين التنظيمية، بناءً على إحالة من رئيس الحكومة، فور إحالتها عليه؛
– ومراقبة اختيارية للقوانين (العادية) بناءً على إحالة من الملك، أو رئيس الحكومة، أو رئيس مجلس النواب، أو رئيس مجلس المستشارين، أو خُمس أعضاء مجلس النواب، أو أربعين عضوًا من أعضاء مجلس المستشارين.

وتُصدر المحكمة قرارها في مسألة مطابقة القوانين (سواء منها التنظيمية أو العادية)، حيث تصرح فيها، حسب الحالة:
– إما أن النص المحال مُطابق، في مجمله، للدستور، أو على الأقل غير مُخالف له (لأن هناك فرق بين العبارتين)؛
– وإما أن النص مُطابق للدستور أو غير مُخالف له، مع مراعاة التفسير الذي أعطيه المحكمة لبعض الأحكام؛
– وإما أن النص المحال مُطابق للدستور أو غير مُخالف له، باستثناء الأحكام التي صرحت المحكمة بعدم دستوريتها؛
– وإما أن النص غير مُطابق للدستور، وهو أمر استثنائي، ولم يقع بعد. حيث إن المحكمة قد تكتفي بالتصريح بأن ” بأن الإجراءات المتبعة لإقرار القانون …….. غير مطابقة للدستور” دون أن تذهب إلى حد القول بأن القانون، بالتبعية، غير مطابق للدستور. (انظر القرار رقم 207/23 بتاريخ 21 فبراير 2023 بشأن النسخة الثانية من لقانون التنظيمي رقم 86.15 المتعلق بتحديد شروط وإجراءات الدفع بعدم دستورية قانون).

سياق إحالة القانون المتعلق بالمسطرة المدنية إلى المحكمة الدستورية:

تجدر الإشارة، أولاً وقبل كل شيء، إلى أنها المرة الأولى في التاريخ الدستوري المغربي التي يتخذ فيها المبادرة لإحالة قانون على القضاء الدستوري للنظر في مدى مطابقته للدستور، بينما جميع الإحالات السابقة، وعددها 19 إحالة (لم يتعد نصيب المحكمة الدستورية منها 5 إحالات) كانت بمبادرة من مجموعة من أعضاء غرفتي البرلمان.

وقد أثار هذا الوضع ببعض الانزعاج من جانب الأستاذ محمد أمين بنعبد الله، رئيس المحكمة الدستورية، الذي وجه عتابا صريحا لرئيسي غرفتي البرلمان بسبب تقاعسهم عن أخذ مبادرة اللجوء إلى المحكمة، حيث طلب منهم استحضار أن “تعدد الطعون أمام المحكمة الدستورية لا تنم على وجود خلاف أو خصام بين السلطات، أبدا! فاللجوء إلى المحكمة الدستورية تطهير للقانون دستوريا”، مضيفا أنه “يجب أن ننأى عن فكرة أن اللجوء إلى القاضي الدستوري هو ضد واضع القانون، لا، أبدا، خذا احترام له لأننا نسلم الأمر لمؤسسة مختصة في هذا الأمر، وعندما تقول كلامها، سنرضخ له جميعا”.

وللتذكير، فأنه سبق لوزير العدل، كرد فعل منه، على ما يبدو، على الانتقادات الموجهة لقانون المسطرة المدنية، من الناحية الدستورية، أن وجه، أثناء مناقشة مشروع القانون في الجلسة العامة لمجلس النواب، تحديا صارخا لرئيس مجلس النواب، قائلاً له:

“إن هناك بعض اللمز والغمز في ما يتعلق بالمحكمة الدستورية، كأن التزام السيد الرئيس بإحالة القانون على المحكمة الدستورية كأنها قبض الروح قبل أن تخرج. يا سيدي الرئيس، أنا أطلب منك أن تحيله على المحكمة الدستورية، أنا أريد أن يحال على المحكمة الدستورية، ولتلغه المحكمة الدستورية، وليعد إلى هنا لنناقشه من جديد. فهل سيتغير العالم …………. ليس لي مطلقا أي مشكل، وأنا كرجل قانون لن أكون معترضا على إحالة هذا القانون على المحكمة الدستورية، على العكس تماما، أريد رأي المحكمة الدستورية. لذلك، التزموا بقراركم السيد الرئيس، وافتخروا بذلك، وردوا عليهم قولوا لهم، لا ضرورة لتلك الإشارات كلها”.

وبالفعل قبل الرئيس التحدي، وصدر قرار المحكمة الدستورية في الموضوع، بلهجة فيها ما ينم عن بعض الانزعاج من المحكمة من بعض المقتضيات، واستغلت الفرصة لتوجيه رسائل خفية، وأحيانًا صريحة، إلى البرلمان وإلى الحكومة باعتبارها صاحبة المبادرة في اقتراح القانون.

ودون الدخول في تفاصيل القرار، فإننا سنركز تدخلنا على أهم قاعدة وضعتها المحكمة بخصوص الإحالات الاختيارية التي لا تتضمن ملاحظات أو مؤاخذات على النص المحال، وهو ما يطلق عليه “الإحالات البيضاء”.

في حالة الإحالات البيضاء، تكون المراقبة الدستورية مراقبة دنيا وانتقائية:

يجدر التذكير بأن رئيس مجلس النواب اكتفى، في الرسالة الموجهة إلى المحكمة الدستورية، “بإحالة القانون المتعلق بالمسطرة المدنية في صيغته النهائية كما صادق عليها مجلس المستشارين في قراءة ثانية”، دون أن يثير بشأنه أي ملاحظات أو مؤاخذات. غير أنه يتضح من حيثيات القرار، أن المحكمة توصلت بملاحظات كتابية حول القانون من طرف بعض البرلمانيين ومن رئيس الحكومة، إلا أنها لم تفصح عن فحوى هذه الملاحظات، وهو أمر مؤسف، ونأمل أن تسمح المحكمة، مستقبلا، بالاطلاع على الوثائق التي لها صلة بالإحالة، إسوة بنظيرها المجلس الدستوري الفرنسي.

على أي، فأن المحكمة لم تترك الفرصة تمر دون أن تعقلن وتؤطر الإحالات الاختيارية للقوانين في إطار مراقبة دستوريتها.

وفي هذا الإطار، فقد سبق للمحكمة الدستورية أن لمحت إلى خصوصية مراقبة دستورية القوانين، وذلك بمناسبة توصلها بطلب التنازل عن الإحالة وسحب بعض موقعيها لتوقيعاتهم، حيث أجابتهم بالقول “وحيث إنه، لئن كان الحق في التنازل يقابله الحق في إقامة الدعوى، فإن هذه القاعدة المدنية يقتصر إعمالها على الدعاوى الشخصية الرامية إلى حماية حقوق أو مراكز قانونية فردية، ولا تطبق على إطلاقيتها، في الدعاوى الموضوعية، لا سيما منها تلك التي ترمي إلى التحقق من التقيد بسمو الدستور؛ وحيث إن طلب التنازل يرمي إلى وقف تفعيل ونفاذ المراقبة الدستورية، مع ما ينطوي عليه ذلك من الحد من صلاحيات المحكمة الدستورية في بسط نظرها على إحالة معروضة عليها ومستوفية لشروط قبولها…… رفض الطلب”. (قرار رقم 66/17 بتاريخ 23 دجنبر 2017).

وما هذا الموقف إلا تأكيد للفرق الموجود بين مراقبة دستورية القوانين والدعاوى الأخرى، مدنية أو إدارية أو جنائية، أو غيرها، لا سيما، في ما يخص موضوعنا، بالوسيلة القانونية المقررة لعرض القضية على الجهة القضائية المختصة.

وبهذا الخصوص، فإن بعض النصوص ذات الطبيعة العامة تقضي بأن الدعاوى ترفع بواسطة مقال يتضمن، من بين ما يتضمنه، الأسماء العائلية والشخصية وصفة أو مهنة وموطن أو محل إقامة المدعى عليه والمدعي …….. وموضوع الدعوى والوسائل المثارة (انظر الفصل 32 من قانون المسطرة المدنية الحالي).

في حين أنه، في ما يتعلق بمراقبة دستورية القوانين، فإن الدستور اقتصر على إقرار حالات اللجوء على المحكمة الدستورية، والجهات المخول لها ذلك، دون التطرق إلى الوسيلة القانونية التي يتم بواسطتها عرض المسألة على المحكمة، ولا إلى فحوى الإحالة.

لذا كان من اللازم انتظار صدور القانون التنظيمي رقم 066.13 المتعلق بالمحكمة الدستورية، لنجد في المادة 23 منه تنص على أن إحالة القوانين إلى المحكمة الدستورية للبت في مطابقتها للدستور، طبقًا لأحكام الفقرة الثالثة من الفصل 132 منه، تكون برسالة من الملك، أو رئيس الحكومة، أو رئيس مجلس النواب، أو رئيس مجلس المستشارين، أو برسالة أو رسائل تتضمن في مجموعها إمضاءات ما لا يقل عن خُمس أعضاء مجلس النواب أو عن أربعين عضوًا من أعضاء مجلس المستشارين.

وهنا لابد من الإشارة إلى أن المادة المذكورة تتحدث عن “رسالة” وليس إلى “عريضة” أو مقال، دون إعطاء أي إشارة إلى مضمون هذه الرسالة، علما أن هناك فرقًا جوهريًا بين المفهومين من الناحية القانونية.

وعليه، فإن القراءة الحرفية للمادة تجعل من المشروع استنتاج أنه يكفي أن تتضمن الرسالة موضوعها، أي طلب فحص مطابقة القانون للدستور، دون أن تتضمن بالضرورة ملاحظات أو مؤاخذات محددة بشأن القانون المحال على المحكمة، في غياب مقتضيات مخالفة. وهذا النوع من الإحالات هو ما يُعرف بـ “الإحالات البيضاء”.

ولعل ما يزكي هذا الطرح، هو أن الفقرة الثانية من المادة 25 من القانون التنظيمي المذكور لم تنص إلا على فتح الإمكانية، وليس الوجوب، بالنسبة لرئيس الحكومة ورئيس مجلس النواب ورئيس مجلس المستشارين وأعضاء المجلسين (كلهم وليس فقط موقعو الإحالة) للإدلاء للمحكمة “بما يبدو لديهم من ملاحظات كتابية في شأن القضية المعروضة عليها”.

إضافة إلى ذلك، وخلافا لنظيرها المجلس الدستوري الفرنسي، فإن المحكمة الدستورية لا تتوفر على نظام للإجراءات المسطرية في مجال المراقبة الدستورية، والذي كان من شأنه أن يرفع اللبس الذي يحيط بهذه النقطة.

ومع ذلك، فإن المحكمة، كرد فعل منها إزاء الاتكالية التي تستشف من بعض رسائل الإحالة، الإحالات البيضاء، واعتبارا للعدد الكبير لمواد قانون المسطرة المدنية والبالغ 644 مادة، وللأجل القصير نسبيا المحدد للمحكمة لتبت في الطلب، والذي لا يتعدى شهرا واحدا، لم تتردد في انتهاز الفرصة لإرساء تنظيم لطريقة إحالة القوانين عليها، حتى لا تتمتع هذه الإحالات بنفس المعاملة المقررة بشأن القوانين التنظيمية.

وهكذا قررت المحكمة، في ما يتعلق بالإحالة أنه ” حيث إن إحالة قانون المسطرة المدنية المكون من 644 مادة، لم تتطرق إلى مآخذ تتعلق بمقتضيات النص المعروض على نحو محدد، مما يتوقف معه عمل المحكمة في الحيثيات بعده، على التحقق من إقرار النص طبقا للإجراءات المنصوص عليها دستورا، وبيان المقتضيات غير المطابقة للدستور أو المخالفة لأحكامه”.

ويبدو أن المحكمة تسير في نفس الاتجاه الذي سار فيه المجلس الدستوري الفرنسي الذي ذهب إلى حد التصريح بمطابقة القانون للدستور لسبب وحيد، وهو خلو رسالة الإحالة من أي مؤاخذة بشأن القانون المحال عليه (Décision n° 2011-630 DC du 26 mai 2011).

وبهذا التوجه الجديد، تكون المحكمة قد ارادت إرساء نوع من التقارب مع المنازعات المدنية وتطبيق القاعدة المنصوص عليها في المادة 3 من قانون المسطرة المدنية الحالي، والتي مفادها أنه “يتعين على القاضي أن يبت في حدود طلبات الأطراف، ولا يسوغ له أن يغير تلقائيا موضوع أو سبب هذه الطلبات”.

ولا يجب أن ننسى أن المحكمة سبق لها أن صرحت، في قرارها رقم 66/17 بتاريخ 23 دجنبر 2017، بأن “عمل المشرع محاطا بمبدإ قرينة الدستورية” ولو أنه أضافت بأن “هذه القرينة يمتد إليها الشك بإحالة الموضوع المتعلق بها على المحكمة الدستورية، التي يصبح عليها واجب رفع هذا الشك والتحقق من دستوريته، بغض النظر عن الموقف البعدي لمقدمي الإحالة منها، ضمانا لمبدإ الأمن القانوني”.

وهكذا، ودون أن تذهب المحكمة إلى حد التصريح برفض الإحالات البيضاء، إلا أنها قررت أنها، في هذه الحالة، تقتصر على ممارسة مراقبة دنيا، تتمثل في “التحقق من إقرار النص طبقا للإجراءات المنصوص عليها دستورا، وبيان المقتضيات غير المطابقة للدستور أو المخالفة لأحكامه”.

بل أكثر من ذلك، فإن المحكمة أوضحت، في نفس الحيثية، أنها ” في إطار مراقبتها لدستورية هذا القانون تراءى لها أن تثير فقط، المواد والمقتضيات التي بدت لها بشكل جلي وتبين أنها غير مطابقة للدستور أو مخالفة له”.

وبعبارة أخرى، فإن المحكمة، أمام إحالة خالية من أي مؤاخذة على القانون المحال عليها، هي التي تقرر بحرية أي من الأحكام سوف تدرسها، دون إعطاء أي توضيح بشأن المعيار الذي اعتمدته للقيام بانتقاء الأحكام التي ستدرسها، من جهة، ومن جهة أخرى للقول ما يبدو ويتبين منها بشكل جلي أنها غير مطابقة للدستور أو مخالفة له، وكأن هذا التمييز واضح في حد ذاته، حتى قبل أن تشرع المحكمة في دراستها.

لكن المحكمة، حرصا منها على طمأنة كل من لم يقتنع أو خاب ظنه في رفضها النظر في جميع أحكام القانون، لمحت إلى أن القضية لم تُخسر نهائيًا، وأن هناك فرص أخرى لإثارة عدم دستورية باقي مواد القانون، ف إطار الدفع بعدم الدستورية، إذ صرحت بأن “المشرع الدستوري إنما رام ضمان التكامل بين الرقابتين القبلية الاختيارية والبعدية في إطار الدفع بعدم دستورية القوانين، تحقيقا لسمو الدستور وحماية للحريات والحقوق الأساسية التي يكفلها بموجب أحكامه، ولا سيما بالنسبة للنص المعروض الذي تنتظم به إجراءات الدعاوى الخاضعة للمسطرة المدنية”، ولكل حادث حديث !

والسؤال المطروح هو: هل يُمكن تطبيق هذه القاعدة في حالة مراقبة دستورية القوانين التنظيمية؟ وللإجابة على السؤال، تجدر الإشارة إلى أن مراقبة دستورية القوانين التنظيمية إجبارية، إذ تنص الفصل 132 من الدستور يستعمل عبارة ” تحال إلى المحكمة الدستورية القوانين التنظيمية”، وهو ما يعني إجبارية الإحالة، لأن الفعل المضارع، عند استعماله في النصوص القانونية، يفيد الوجوب، بينما عند الحديث عن الإحالات الاختيارية، استعمل الفصل المذكور عبارة ” يمكن ………..أن يحيلوا القوانين…”.

من جانبها نصت المادة 21 من القانون التنظيمي المتعلق بالمحكمة الدستورية على أن إحالة القوانين التنظيمية على المحكمة الدستورية تكون “على الفور” (ما يقابله في الصيغة الفرنسية «sans délai»).

وبالجمع بين إجبارية الإحالة وبين فوريتها، فأنه لا يستساغ أن يطالب رئيس الحكومة بإرفاق رسالته بملاحظات على القانون التنظيمي. بمعنى أنه، في هذه الحالة، يقع العمل بأكمله على عاتق المحكمة، التي يجب عليها دراسة كل مادة من النص والبت في دستورية القانون التنظيمي بأكمله.

وينطبق هذا المنطق، للأسباب نفسها، على الأنظمة الداخلية اللوائح الداخلية لغرفتي البرلمان.

أما بخصوص مسألة مطابقة الالتزامات الدولية، يبدو في نظرنا أن المحكمة الدستورية لا يمكن أن تكتفي بممارسة حد أدنى من الرقابة على هذه الالتزامات، خاصة إذا صدرت الإحالة من جلالة الملك، وذلك بسبب عواقب التناقض المحتمل مع الدستور، ألا وهو ضرورة القيام بمراجعة للدستور قبل المصادقة على الالتزام المعني، وذلك طبقا لأحكام الفصل 55 من الدستور الذي ينص على أنه إذا صرحت المحكمة الدستورية، ……………….، أن التزاما دوليا يتضمن بندا يخالف الدستور، فإن المصادقة على هذا الالتزام لا تقع إلا بعد مراجعة الدستور”.

تبعات قرار المحكمة الدستورية:

بصفة عامة، ولكي نبقى منحصرين في موضوعنا، عندما تثير المحكمة الدستورية عدم التطابق أو عدم التوافق مع الدستورـ فإنها تضرح في قرارها:
– إما أن تكتفي بالقول بأن مقتضيات النص المعروض عليها مخالفة، كلها أو البعض منها، للدستور، وفي هذه الحالة، لا يمكن إصدار الأمر بتنفيذه؛
– وإما أن تقرر بأن المقتضيات التي صرحت بعدم دستوريتها يمكن فصلها عن مجموع النص، وفي هذه الحالة ” يجوز إصدار الأمر بتنفيذ القانون التنظيمي أو القانون أو النظام الداخلي باستثناء المادة المصرح بعدم مطابقتها للدستور” (المادة 27 من القانون التنظيمي المتعلق بالمحكمة الدستورية).

ومع ذلك، فقد لا تصرح المحكمة بعدم مطابقة النص للدستور، ولو أن هذه النتيجة تستخلص من مضمون القرار. وكمثال على ذلك، قد تصريح المحكمة بأن ” لإجراءات المتبعة لإقرار القانون التنظيمي رقم 86.15 المتعلق بتحديد شروط وإجراءات الدفع بعدم دستورية قانون، غير مطابقة للدستور” (القرار رقم 207/23 بتاريه 21 فبراير 2023).

ورجوعا إلى قانون المسطرة المدنية، فإن المحكمة صرحت، بالفعل، بأن مجموعة من مقتضياته غير مطابقة للدستور، لكن دون التصريح بأن هذه المقتضيات يمكن فصلها عن مجموع القانون، مما يستتبع بالضرورة عدم إمكانية إصدار الأمر بتنفيذه كله. وبالتالي، فإنه يتعين على الحكومة أن تراجع نسختها م على الحكومة أن تراجع نسختها وتعمل على تنقيحها من المؤاخذات التي أثارتها المحكمة الدستورية.

لكن المشكل يكمن في أن المحكمة، عندما صرحت بعدم دستورية بعض مقتضيات القانون، لم تصرح في نفس الوقت بأن المقتضيات الأخرى ليس فيها ما يخالف الدستور. لذا، فإن الحكومة لن يكون عليها، فقط، مراجعة المقتضيات المصرح بعدم دستوريتها، بل يتعين عليها القيام بدراسة جديدة لكل مقتضيات القانون، طالما أن المحكمة صرحت بأنه ” تراءى لها أن تثير فقط، المواد والمقتضيات التي بدت لها بشكل جلي وتبين أنها غير مطابقة للدستور أو مخالفة له”، مضيفة أنها تقضي ” ومن غير حاجة لفحص دستورية باقي مواد ومقتضيات القانون المحال”.

وهذا يعني أن المؤاخذات المثارة تكفي، لوحدها، لإسقاط القانون، وبأن المحكمة فد تثير مؤاخذات أخرى، ولن تتردد في ذلك، إما بمناسبة إعادة فحص دستورية القانون في صيغته المراجعة (بشرط إحالته عليها من جديد)، وإما بمناسبة البت في الدفع بعدم دستورية مقتضياته، علما أن المحكمة سبق لها أن صرحت أنه، طالما أن القانون التنظيمي المتعلق بتحديد شروط وإجراءات الدفع بعدم الدستورية لم يصدر بعد، فإنه يتعذر عليها البت في الطلب يرمي إلى الدفع بعدم دستورية مادة من قانون ساري المفعول. (انظر قرار المحكمة الدستورية رقم 80/18 بتاريخ 12 يوليو 2018 يتعلق بالمادة 265 من قانون المسطرة الجنائية).

بالطبع، لا شيء يُلزم الأطراف التي يحق لها إحالة الأمر إلى المحكمة بإحالة النسخة الجديدة للقانون إليها مرة أخرى، بعد تمام الموافقة عليه، (بخلاف القوانين التنظيمية). إلا أن الأخلاقيات والاحترام الواجب للمحكمة يفرضان على هذه الأطراف العودة إليها من أجل التحقق من أن ملاحظاتها فد تم أخذها، حرفيا، بعين الاعتبار.

ولكن السؤال يبقى مطروحا عما سيحدث إذا أُحيل القانون الجديد إلى المحكمة بواسطة إحالة بيضاء؟ هل ستركز فقط على المواد أو المقتضيات التي سبق للمحكمة أن أثارت عدم دستوريتها؟ أم أنها ستقوم ستتصرف مع القانون كما لو أن الأمر يتعلق بإحالة لأول مرة؟

وبالمقابل، إذا توصلت المحكمة بإحالة تتضمن ملاحظات أو مؤاخذات على القانون، ما وصلت إلى المحكمة، هل ستلتزم باجتهادها وتحصر نظرها فقط في البت عفي دستورية المقتضيات المعنية، أم أنها ستذهب إلى أبعد من ذلك؟

سؤال نترك للمستقبل أن يجيب عنه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *