من “زاد” إلى ما بعده: أين يتجه الحراك الاجتماعي في المغرب؟

شهد المغرب منذ أيام موجة احتجاجات شبابية غير مسبوقة حملت اسم “زاد”، بدأت شرارتها الأولى في عدد من المدن الكبرى ثم إمتدت إلى الهوامش والأحياء الداخلية، لتكشف عن حالة من الغليان الاجتماعي المتراكم الذي ظل يختزن غضب الشباب والفئات المهمشة، الحراك، الذي بدأ بطابع سلمي، سرعان ما اكتسب صبغة الاحتقان والعنف في بعض المناطق، بما يعكس حجم الإحباط المتراكم لدى المواطنين، ويفتح الباب أمام تساؤلات مهمة حول أسباب اندلاع الاحتجاجات، وطرق تعامل السلطات معها، والتداعيات التي قد تترتب على استمرارها، وما يمكن أن يفضي إليه المستقبل الاجتماعي والسياسي في البلاد.
انطلقت شرارة الحراك من مدينة أكادير بعد حادث مأساوي تمثل في وفاة ثماني نساء أثناء الولادة في مستشفى الحسن الثاني نتيجة الإهمال ونقص المعدات الطبية، وهو الحادث الذي أعاد إلى الواجهة أزمات قطاع الصحة، وجعل الشباب يخرجون للتعبير عن غضبهم العميق، ليس فقط على هذا الحادث، بل على تراكم طويل من التهميش في قطاعات التعليم والصحة والشغل، وتردي الأوضاع الاقتصادية التي تعاني منها فئات واسعة من المجتمع، وقد لعبت منصات التواصل الإجتماعي كتيكتوك وانستغرام وديسكورد دورا مهما في انتشار الحراك وتوحيد المطالب، حيث أصبحت أداة أساسية في تنظيم الشباب وتحريك الاحتجاجات، وشكلت بيئة مناسبة للتنسيق ونشر رسائل الشباب بسرعة وفاعلية، وهو ما يعكس تحولًا واضحًا في أساليب الاحتجاج لدى الجيل الجديد.
تتعدد الأسباب التي أدت إلى انفجار الأوضاع، وتتشابك بين الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، فالخدمات العامة، خاصة الصحة والتعليم، تعاني من تراجع ملحوظ، مع نقص الكوادر الطبية والمعدات وانتشار المحسوبية والفساد، مما يجعل الحصول على خدمة أساسية تحديًا يوميًا للعديد من المواطنين، إلى جانب ذلك، يمثل ارتفاع معدلات البطالة بين الشباب، وخاصة حملة الشهادات العليا، عاملًا رئيسيًا في تفاقم الإحباط، إذ يشعر الشباب بعدم جدوى الدراسة في ظل سوق عمل محدود ومتشبع، ويزداد شعورهم بالتهميش والعزلة الاجتماعية، فعلى سبيل المثال، حُصر الترشح لوظائف التدريس في الفئات التي تقل أعمارها عن الثلاثين، مما جعل الشباب فوق هذا السن أمام أفق مسدود، كما ساهم الإنفاق السخي على مشاريع رياضية ضخمة، مثل الاستعدادات لاستضافة كأس العالم 2030 وكأس الأمم الأفريقية 2026، في زيادة حدة الاحتجاجات، وقد ظهر ذلك جليًا في الشعارات التي يرفعها المحتجون ويرددونها في الميادين، كل هذا يحدث في وقت تعاني فيه القطاعات الأساسية من نقص حاد، مما يزيد شعور المواطنين باللامبالاة تجاه احتياجاتهم اليومية ويثير التساؤلات حول أولويات الدولة وقدرتها على تحقيق العدالة الاجتماعية.
وبالعودة إلى الإحتجاجات فقد تعاملت السلطات مع الحراك منذ اليوم الأول، بمزيج من التدخل الأمني والمراقبة المكثفة، حيث تم توقيف مئات المحتجين، واستخدمت قوات الأمن القوة لتفريق بعض التجمعات، وقد كانت المقاربة الأمنية الخيار الوحيد لتعاطي الدولة مع هذا الحراك ، مما شكل منعطفا في مساره الذي كان في السابق يتسم بالسلمية، ثم تحول إلى مسار عنيف ترتب عنه تداعيات خطيرة حيث أسفر عن وقوع إصابات وخسائر مادية، شملت إحراق عربات أمنية وسيارات خاصة، بالإضافة إلى اقتحام مؤسسات حكومية وبنوك ومتاجر، ووقوع أعمال نهب وتخريب، إلى جانب ذلك، اختارت الحكومة موقف الصمت النسبي تجاه الأحداث المتسارعة ، وهو ما زاد من منسوب الاحتقان في الشارع، وأعطى الانطباع لدى الشباب بأن مطالبهم لا تلقى الاهتمام المطلوب، وأن الدولة تتجاهل معاناتهم اليومية.
وبالرغم من هذا المنحى الذي اتخذه الحراك، إلا أنه ظل في جوهره انعكاسًا لغضب شعبي متراكم عبر سنوات من الإحباط الاقتصادي والاجتماعي، ويظهر أن هذا الغضب ليس لحظيًا، بل هو نتيجة تراكم طويل من الإهمال والتهميش، وغياب قنوات التواصل الفعالة بين الدولة والمواطن، وإذا استمرت الحكومة في تجاهل هذه المطالب، فإن الاحتجاجات قد تمتد لتشمل مناطق ومدنًا أخرى، وقد يتحول الحراك إلى موجة أوسع من الاحتجاجات، تهدد الاستقرار الاجتماعي والسياسي، وفي الوقت نفسه، يظل الباب مفتوحًا أمام مسارات أكثر إيجابية، إذا ما قررت الدولة فتح قنوات حوار جاد مع المحتجين، والاستماع إلى مطالبهم بجدية، وتنفيذ إصلاحات ملموسة في القطاعات المتضررة، خاصة الصحة والتعليم وقطاع الشغل، بما يضمن تلبية احتياجات المواطنين، ويحول طاقة الغضب إلى طاقة إنتاجية إيجابية تعزز التنمية والاستقرار.
إن ما يجعل حراك “زاد” مختلفًا عن الاحتجاجات السابقة هو مستوى الوعي لدى الشباب وقدرتهم على التعبير عن مطالبهم بطريقة منظمة وسريعة عبر التكنولوجيا الرقمية، وهو ما يضيف بُعدًا جديدًا على المشهد الاجتماعي المغربي، فالجيل الحالي لم يعد يكتفي بالاحتجاج العابر، بل يسعى لإحداث تغيير حقيقي في الواقع، ويرى في الاحتجاج وسيلة لإيصال صوته، وإظهار مدى الاستياء والغضب من سياسات الدولة، وغياب العدالة الاجتماعية، كما أن هذا الحراك يوضح ضعف التواصل بين الدولة والمواطنين، ويطرح تحديًا حقيقيًا حول كيفية إدارة الاحتجاجات والاستجابة لمطالب الشعب بطريقة توازن بين الاستقرار وحاجة المجتمع للتغيير والإصلاح.
إن استمرار الحراك لأيام متتالية يعكس جدية المطالبين بها، ويؤكد أن ما يحدث ليس مجرد نزوة عابرة، بل هو تعبير عن حالة مستمرة من الإحباط والتهميش الاجتماعي والاقتصادي، وإذا أرادت الدولة تجنب الانزلاق نحو سيناريوهات أكثر خطورة، عليها الاستجابة بجدية لمطالب المحتجين، والعمل على إصلاحات حقيقية ومستدامة، بعيدًا عن الإجراءات الأمنية المؤقتة، والأساليب القمعية المتجاوزة، أو الصمت الحكومي الذي قد يزيد من الاحتقان، ويضاعف حدته، فالشباب اليوم لا يطالبون بالمستحيل، بل يطالبون بحقهم في تعليم جيد، ورعاية صحية فعالة، وفرص عمل تضمن لهم حياة كريمة ومستقبلًا واضحًا، ومحاربة جدية وفعالة للفساد ومظاهره، وهو ما يمثل اختبارًا حقيقيًا لنضج المؤسسات المغربية وقدرتها على إدارة الأزمات الاجتماعية.
وختاما يمكن القول إن حراك “زاد” يعكس تحولًا في ديناميات التعبير الشعبي بالمغرب، ويؤكد أن الشباب أصبح أكثر وعيًا وإصرارًا على المطالبة بحقوقه، وأن غضبه يمثل نبض المجتمع الذي يبحث عن العدالة والكرامة والفرص المتكافئة، ومن خلال التعامل الجاد مع هذا الحراك، يمكن تحويل الغضب إلى طاقة إيجابية تخدم التنمية الوطنية وتعزز الاستقرار الاجتماعي، بدلاً من أن يتحول الاحتجاج إلى موجة من الفوضى والعنف الذي يضر بالجميع، ويعمّق الفجوة بين الدولة والمجتمع.
اترك تعليقاً