جيل الأمل وإصلاح الدولة: حين يكتب الشباب المغربي فصلا جديدا في الثقة والمواطنة
الحراك كمرآة لتحولات عميقة

منذ أسابيع، يشهد المغرب دينامية مجتمعية غير مسبوقة قادها الشباب، ولا سيّما أبناء جيل Z المغربي، الذين خرجوا إلى الشوارع في أكثر من ثلاثين مدينة حاملين شعارات تعبّر عن عطشٍ جماعي للكرامة والعدالة والمشاركة الفعلية في صنع القرار.
إنّ ما يجري اليوم لا يمكن اختزاله في احتجاجات ظرفية، بل هو تحوّل ثقافي وسياسي عميق يكشف عن ولادة وعيٍ جديد بالحقوق وبمعنى الدولة الحديثة.
جيلٌ نشأ في زمن التحوّل الرقمي، وتكوَّن وعيه في فضاءات مفتوحة على العالم، يرفض أنصاف الحلول ويطالب بوضوحٍ:
« بدولة تحترم الإنسان لا بمنظومة تُرهقه »
إنها صرخة أمل قبل أن تكون احتجاجًا، ورسالة إصلاح قبل أن تكون تحديًا.
أولًا: أزمة الثقة… حين تنكسر علاقة المواطن بالدولة
يُجمع معظم الباحثين على أن جوهر الأزمة التي يعيشها المغرب اليوم هو أزمة ثقة، لا فقط في المؤسسات، بل في معنى السياسة نفسها.
فحسب المعهد المغربي لتحليل السياسات، 69% من المواطنين لا يثقون في الأحزاب، و68% لا يثقون في البرلمان، بينما لا تتجاوز الثقة في الحكومة 23%.
أما منظمة الشفافية الدولية فتكشف أن 41% من المغاربة يعتقدون أن البرلمانيين متورطون في الفساد.
هذه الأرقام لا تعبّر فقط عن فجوة في الأداء، بل عن انهيار في العقد الاجتماعي الذي يفترض أن يربط الدولة بالمجتمع، فحين يشعر المواطن أنّ صوته لا يُسمع، وأن القانون لا يحميه، وأن العدالة لا تنصفه، يصبح الشارع هو المنبر الوحيد للتعبير عن المواطنة.
إنها اللحظة التي تتحوّل فيها الثقة من رابط اجتماعي إلى مطلبٍ سياسي.
وكما قال الاقتصادي جون كينيث غالبريث الثقة هي رأس المال الاجتماعي الأول، وإذا انهار، انهارت الدولة.”
ومن هنا، يصبح استرجاعها أول إصلاحٍ يجب أن يبدأ قبل أي قانون أو تعديل دستوري.
ثانيًا: بين النصوص والدستور… أين تعطّل مسار الإصلاح؟
حين أقرّ المغاربة دستور 2011، كان الأمل كبيرًا في بناء دولةٍ حديثة تستند إلى فصل السلط، وربط المسؤولية بالمحاسبة، وتكريس المساواة والعدالة الاجتماعية.
لكن بعد مرور أكثر من عقد، تراجعت وتيرة الإصلاح، وتراكمت مظاهر الريع والفساد، وتجمّدت بعض القوانين التي كانت ستمكّن المواطنين من الدفاع عن حقوقهم.
من بين هذه القوانين المعطّلة:
• قانون الدفع بعدم دستورية القوانين (القانون التنظيمي رقم 86.15) الذي يسمح للمواطن بالطعن في أي نصّ قانوني مخالف للدستور؛ وهو آلية أساسية لترسيخ دولة الحق.
• قانون الإثراء غير المشروع الذي تمّ التراجع عنه رغم أهميته في ردع الفساد وحماية المال العام.
• قانون منع الجمعيات من التقاضي في قضايا الفساد، وهو خطوة تراجع عن مبدأ الشراكة بين الدولة والمجتمع المدني في محاربة الريع.
• القوانين الانتخابية التي ما زالت تسمح باستعمال المال والنفوذ، مما يفرغ المؤسسات من مصداقيتها.
إن تعطيل هذه النصوص لا يعني فقط غياب الإرادة السياسية، بل يعكس تغلّب منطق التحكم على منطق الدستور.
فالدولة القوية ليست التي تملك أدوات السيطرة، بل التي تمتلك شجاعة الإصلاح الذاتي.
ثالثًا: من هيبة الدولة إلى عدالة الدولة
في خضم هذا الحراك، يُستعمل أحيانًا تعبير «هيبة الدولة» لتبرير التضييق على حرية التعبير أو القمع الميداني.
لكن، أيّ هيبةٍ تلك التي تقوم على الخوف لا على العدالة؟
الهيبة الحقيقية للدولة تُقاس بمدى احترامها لمواطنيها، بمدى نزاهة مؤسساتها، وبقدرتها على الإنصات لا على الإخضاع.
كما قال المفكر الفرنسي ألبير كامو: “العدالة هي الوجه الحقيقي للهيبة، والظلم وجهها القبيح.”
إن الدولة التي تُهين مواطنيها أو تُفرّق بينهم في الحقوق تفقد هيبتها، مهما كثرت أدواتها الأمنية.
هيبة الدولة تبدأ من المدرسة والمستشفى، من الإدارة النظيفة والقضاء المستقل، ومن مؤسساتٍ تخضع للمساءلة لا للحصانة.
إنها هيبة القانون، لا هيبة الأشخاص.
رابعًا: آيت بوكماز… رمز لعدالة مجالية مؤجلة
لم تكن مسيرة آيت بوكماز مجرد احتجاج محلي، بل صرخة رمزية لبلدٍ يعاني من فوارق مجالية صارخة.
فبين مغربٍ يُنفق الملايير على مشاريع كبرى، ومغربٍ لا يجد سكانه طريقًا أو مستشفى، تتجسد ازدواجية النموذج التنموي.
هذه الفجوة ليست قدرًا، بل نتيجة خيارات سياسية واقتصادية ركّزت الثروة في المركز وحرمت الهامش من التنمية.
الاحتجاج في الجبل هو وجهٌ آخر لاحتجاج المدن، وكلاهما يصبّ في مطلبٍ واحد: العدالة المجالية والمساواة في الحقوق.
فمن لا عدالة له في الجبل، لن تكون له كرامة في العاصمة.
خامسًا: الإصلاحات الممكنة… من مطلب الشارع إلى مشروع الدولة
لكي تتحوّل مطالب الشباب إلى مشروع دولة، لا بد من رؤيةٍ إصلاحية شاملة تعيد بناء الثقة وتفتح أفق المشاركة.
هذه الرؤية يمكن أن تنطلق من المحاور التالية:
1. ترسيخ دولة القانون والمؤسسات من خلال تفعيل آليات الطعن الدستوري، واستقلال القضاء، وربط المسؤولية بالمحاسبة.
2. إحياء قانون الإثراء غير المشروع ومصادرة أموال المفسدين، تأكيدًا لسيادة القانون على الجميع.
3. إصلاح النظام الانتخابي وتجريم استعمال المال في السياسة، مع تسهيل المشاركة عبر التصويت الرقمي وجعل البطاقة الوطنية كافية للتصويت.
4. تفعيل المجلس الأعلى للشباب كإطار مؤسسي للحوار والسياسات الموجهة للفئات الشابة.
5. مراجعة القوانين الصحفية والمدنية لضمان حرية التعبير وتوسيع دور المجتمع المدني في مراقبة الشأن العام.
6. اعتماد جهوية فاعلة تُعيد توزيع الثروة وتُمكّن الجماعات المحلية من أدوات القرار والمحاسبة.
إن تحقيق هذه المطالب لا يتطلب فقط نصوصًا قانونية، بل إرادة سياسية تعي أن الإصلاح هو الضمان الحقيقي لاستقرار الدولة
سادسًا: نحو عقد اجتماعي جديد
لقد حان الوقت لأن يُعاد النظر في العلاقة بين المواطن والدولة على أساسٍ جديد، يقوم على الثقة والمساءلة والمشاركة.
فالعقد الاجتماعي الجديد يجب أن يُؤسس لـ:
• عدالةٍ ضريبية تُعيد توزيع الثروة.
• تعليمٍ منصف يفتح أفق الترقي الاجتماعي.
• سياسةٍ ترابية تُنصف الجهات المهمّشة.
• منظومةٍ رقميةٍ تُقرب المواطن من القرار والخدمات.
التنمية ليست مؤشرات مالية، بل كرامة إنسانية ومواطنة فاعلة.
وكما قال نيلسون مانديلا“الفقر ليس صدفة، بل نتيجة قرارات وبالتالي، فإن القضاء عليه يحتاج إلى قرارات جريئة لا إلى شعارات موسمية.
خاتمة: جيل الأمل وصوت المستقبل
ليس جيل Z جيلَ أزمة، بل جيل الأمل والجرأة
هو الجيل الذي لم يعد يقبل أن يكون مجرد رقم في الإحصاءات، بل يريد أن يكون شريكًا في كتابة مصير بلاده.
إن حراكه ليس تمرّدًا على الدولة، بل دعوةٌ إليها لتجديد نفسها، لتصغي إلى أبنائها، وتعيد تعريف سلطتها على أساسٍ من الثقة والعدالة.
فالمجتمعات التي تسمع صوت شبابها تصنع مستقبلها، والمجتمعات التي تُسكتهم، تفقد بوصلة التاريخ إنه زمن الإصغاء لا زمن الإنكار وزمن الإصلاح لا زمن التبرير وزمن استعادة هيبة الدولة عبر عدالة الدولة
فمن رحم هذا الحراك يولد مغرب جديد… مغرب الثقة والمواطنة
اترك تعليقاً