وجهة نظر

الطويل يكتب..الخطاب النسائي الجديد من “هوية حقوقية” إلى “إيديولوجيا شاملة”

على الرغم من عمق التحولات البنيوية التي يعتمل ضمن مخاضاتها راهن الخطاب النسائي على المستوى الدولي، إلا أن الجهد المبذول في إنتاج الدراسات والأبحاث على المستوى العربي والإسلامي لفهم هذه التحولات واستجلاء مضامينها الكامنة وقيمها الثاوية.. يبقى محدوداً وضئيلاً، سواءً من حيث كمّه أو جدّيته. 

ومن دون شك، فإنّ في ضعف إدراكنا لتطرف بعض مفاهيم الخطاب النسائي الحديث ما سيفقدنا الكثير من القدرة على استشراف مآلاته، وبالأحرى تفادي انعكاساته السلبية على مجتمعنا، وتجنّب مضامينه اللإنسانية المُربكة لمدركاتنا الجماعية.

وتتأكد حاجتنا الماسة إلى إخضاع منطلقات ومفردات الخطاب النسائي الحداثي لمشرحتي النقد والتمحيص، بعدما اشتدت حدّة التحولات النوعية والجوهرية لهذا الخطاب، والذي تدرّج من مجرد خطاب حقوقي معنيّ بالنضال من أجل المرأة بـ “الانتصاف” لها ومناهضة الحيف والاستبعاد والامتهان الممارس في حقّها، إلى أن صار خطاباً إيديولوجيا يتخذ من مفهوم “التمركز حول الأنثى” منطلقا تأسيسيا يُشيّد بناءً على مداميكه رؤية جديدة عن هوية وطبيعة المرأة ونطاق حضورها في المجتمع والحياة العامة.

هكذا، وبعد أن كان الخطاب النسائي الحقوقي، إلى عهد قريب، ملتزما بالدفاع عن المرأة والمطالبة بحفظ المساواة بينها وبين الرجل، باعتبار جوهرهما الإنساني وكيانهما الآدمي الواحد، في إطار من الانتماء إلى الكل الاجتماعي الشامل والالتزام بوحدة المستقبل والمصير المجتمعي المشترك؛ تحوّل الخطاب النسائي الجديد نحو تبني مفاهيم ومفردات تأبى الأخذ بمفاهيم “الوحدة” و”الجوهر” و”الثبات” و”الكلية”، بل وتأتي مناقضة لها في أغلب الأحيان.

ولعلّ ذلك راجع إلى المضان المرجعية الحداثية والأصول المعرفية العالمانية للخطاب النسائي الحديث، لا باعتبار العالمانية فصلا للدين عن الدولة، ولكن بوصفها تعبير عن “رؤية كلية” للطبيعة والحياة والأحياء، وبكونها “موقف وجودي” ينزع للتحرر من أسر كل انتماء وللتحلّل من قيد أي التزام بـ “المتعالي/المتجاوز” أو “الثابت/القائم”.

وفي مقابل ذلك، ينضبط هذا الخطاب لمفاهيم “المرجعية التطبيعية” ومبدأ “النشاط الابتدائي” و”أخلاق الصيرورة”. وهي التوجهات التي تفترض أن مرجعية الإنسان كامنة فيه، وأن قيم المجتمع هي قيم الطبيعة المؤسسة على مقولات الصراع وموازين القوى، حيث تندثر لغات القيم المتعالية والأخلاق المتسامية، ويسود محلّها لغات لا تستوعب من حركة التاريخ إلا أبعادها الصراعية على الفرد واللحظة والمادة والمصالح وموازين القوى واللذة والمتعة ونزوغات التسلط والهيمنة والتسيُّد. فلا حق فيه ولا عدالة ولا خير، سوى ما تراه دوائر السلطة والقوة والنفوذ حقاً وعدالةً وخيراً.

ولم يكتف الخطاب الحداثي/العالماني بتنصيب الإنسان مرجعية نفسه، مستغنيا عن أي غيب يمدُّه بالمعنى والهداية، وإنما انتهت تفكيكية ما بعد الحداثة ومتتالية العلمنة الشاملة إلى إلغاء فكرة المرجعية ذاتها، حيث يغدو العالم من دون مرجعية تسنده. عالم حديث مكتف بذاته، لا يضره استغناؤه عن أي روح تُضفي عليه المعنى، أو مركز يمنحه الثبات، أو قيمة تُرشد دأبه وحراكه.

وتحاول “الحركة النسوانية الجديدة” حجب غيبياتها العالمانية، تلك، بالتدثر في رداء نظريات الجيل الرابع لحقوق الإنسان، لتُلبّس على الناس مواقفهم وتُشوّش عليهم رؤيتهم. والحال أن النظريات الحديثة لحقوق الإنسان، في طورها الرابع وما بعده، ترتكز بدورها على رؤية معرفية “دهرانية” شاملة، قائمة على مفاهيم السيولة وقيم الصيرورة ومذهبيات التفكيك المناقضة لـمفاهيم: “الكل الشامل” و”الوحدة الجامعة” و”المعنى المتجاوز”.

وبحكم أساسها المعرفي العالماني المشبع بنزعته التفكيك، فإن النظرية الجديدة للحقوق، بما فيها الخطاب النسواني المتمركز حول الأنثى، لا ترقب في المجتمع أي وحدة تجمعه أو إطار يشتمله، وإنما المجتمعات عندها ليست سوى أقليات متنازعة لا مشترك بينها ولا قواسم. والنساء ضمن هذا الخطاب، لسن سوى أقلية من بين أقليات أخرى، حيث لا وحدة انتماء إنسانية ولا ثوابت قيمية ولا معيارية مشتركة، فالكل متساوٍ أمام الكل، وباقي الأمور الأخرى تبقى مجرد أمور نسبية ومتغيرة وسائلة..

وعلى أساس من هذا التصور، تَشكَّل الخطاب النسائي الجديد المتمركز حول الأنثى، لا للدفاع عن حق المرأة في المساهمة في تنمية مجتمعها والنهوض بوطنها، وإنما للتحلّل من أي إطار اجتماعي سابق، بدعوى أن وجود المرأة في “الطبيعة”، من حيث هي فرد، سابق عن وجودها في المجتمع، فلا يجوز مصادرة ما منحته لها الطبيعة باسم أعراف وتقاليد المجتمع.

هكذا، وبعد أن نجحت “الحداثة العالمانية” في تكريس فكرة تمركز مطلق الإنسان حول ذاته، استطاعت تفكيكية ما بعد الحداثية أن تنزع وجود المرأة عن وجود الرجل، منتهية إلى تمركز الأنثى حول ذاتها، في مقابل تمركز الذكر حول ذاته، لا يجمعهما إطار ولا يربطهما مشترك غير لغة الصراع والتدافع المصلحي المتحلّل من أي قيم ضابطة أو أخلاق موجِّهة.

ووفقا لهذه التوجهات، شرعت الأطروحة الفكرية النسوانية في الصدح برؤية جديدة لطبيعة العلاقة بين الرجل والمرأة، بما هي علاقة صراع أبدي بين مستغِلّ ومستغَلّ. وكأننا بإيديولوجية شيوعية جديدة ولكن بهوية وحامل اجتماعي نسائي بدل “العمالي/البروليتاري”، تتخذ من شعار “يا نساء العالم اتحدن” دعوة لإشعال ثورة في وجه “طبقة” الرجال المسيطرين على زمام السلطتين الرمزية والمادية، بالبنيتين التحتية والفوقية.

ولعلّه الأمر الذي دفع بالفيلسوف المجدد د. طه عبد الرحمن للتحذير من غلواء هذه التوجهات، وذلك في معرض حديثه عن الخطابات “الفكرانية” التي تدعو إلى هدم الأسرة، والتي عدّد من بينها الخطاب النسواني الأنجلو-ساكسوني واصفا إيّاه بأنه:
“الخطاب الذي يرى أن لا اعتبار للفروق التناسلية العضوية بين الرجل والمرأة من ذكورة وأنوثة، وأن الفروق في الأدوار الاجتماعية القائمة على هذه الفروق التناسلية ليست طبيعة، وإنما هي ثقافية وتاريخية فيها من التحكم بقدر ما فيها من الاستلاب؛ ولكي تزول هذه الفروق في الأدوار المستندة إلى الذكورة والأنوثة، لا بد من القيام بثورة لإزالة [الطبقية] الجنسانية، وينبغي أن تتولى هذه الثورة الجنسانية الطبقة المسحوقة منها، وهي طبقة النساء؛ ولا يخفى ما في هذا الموقف من تكلف وغلواء لا أدل عليهما من كونه يفتح الباب لتسوية [أو “لتطبيع”، بحسب لغة د. عبد الوهاب المسيري] حالات الشذوذ الجنسي”. (“روح الحداثة”، ص 111)
نعم، إنها إيديولوجية جديدة تتخذ من المرأة مفهوما منهجياً ومقولةً تحليليةً، ومن النساء طبقة اجتماعية خامدة تنتظر من “يثوِّرُها” لخوض غمار انقلابها على المعهود الذكوري واستعادة حقها في تشكيل معنى أنثوي للحياة، أو العالم بصيغة المؤنث.

لقد بتنا أمام إيديولوجية نسائية جديدة شاملة تجهد نفسها لمعاودة هندسة شبكة العلاقات الاجتماعية والثقافية على أساس مفاهيم متحررة من أثقال المرجعية الثقافية والدينية وعبء التاريخ بتقاليده وثقافاته.

إننا أمام إيديولوجيا شاملة متمركزة حول الأنثى، لا لشيء إلا لأنها أنثى. إيديولوجيا حائزة لأركان وشرائط الإيديولوجيا الشاملة: بدءً، بالميتافيزيقية غيبية؛ ومروراً، بمنظومة القيم الكلية والنهائية؛ وانتهاءً، بنسق مفاهيمهي متكامل عن العيش والحياة…

وشيئا فشئياً، بدأ هذا التوجه الحديث للخطاب النسائي، المدعوم من مؤسسات ودوائر نفوذ دولية، يكرّس فكرة أن لا إمكان لتحقيق المرأة ذاتيتَها المبدعة والمنتجة، إلا بالتناقض مع سالف أدوارها الإنسانية ومعهود وظائفها الاجتماعية التقليدية. كما بدأ يتنامى الحديث عن ضرورة رفع كل القيود وفتح كل الحدود التي تعوق تحقيق المرأة لذاتيتها المخصوصة وكيانيتها المتفردة والمعزولة عن أي كيانية أو انتماء أو إطار.

ولعلَّ واحداً من هذا العوائق ما يعود إلى بنية النموذج اللغوي القائمة، والذي ما فتئت المناضلات في حقل الحركات النسائية، في كل فرصة وحين، يحتججن على الظلم اللغوي المسلط على المرأة، ويدعين إلى تفكيك الأساس الذكوري للنموذج اللغوي المتداول، والعمل على إعادة تركيبه أملا في بناء لغة محايدة و”مجندرة”، غير قابلة للتذكير أو التأنيث.

ولم يكتف الخطاب النسائي الجديد بالنضال في المجالات السياسية والحقوقية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، بل ما من بعد من أبعاد الحياة إلا وأفتى فيه فتوىً وقدم فيه موقفاً، وتوسّع بعض من رواده لمواجهة شكل الممارسة الجنسية “الطبيعية” بين الرجل والمرأة، لا لشيء إلا لأن هذه الممارسة في عرفهم ليست سوى ممارسة سياسية يتمثل فيها الرجل سلطة الوطء، الشبيهة بسلطة القرار في السياسة، أو بسلطة القوامة في الأسرة، أو بسلطة السطوة في ميدان المال والأعمال.

ولا غرابة في أن ينتهي مآل هذا التطرف في القول، في بعض دول الغرب على الأقل، إلى مآل أدلجة “السحاق” باعتباره شكلا من أشكال تحرّر الأنثى في مزاولة حقّها في ممارسة جنسية متحلّلة من هيمنة الرجل وحضوره الطاغي المتسلط. وكأننا بـ”السحاق” تأكيد على حق وقدرة الأنثى في الاستمتاع بذاتها لذاتها، في استغناء عن أي شريك من جنس آخر.

بكلمة، لا شك أننا مع الخطاب النسواني “المتمركز حول الأنثى” قد بتنا وجها لوجه أمام إيديلوجية شاملة للحياة، يسعى من خلالها منظّروها إلى تعميق التناقض وتوسيع الهوة بين المرأة والرجل. كل ذلك في سياق تسريع معدلات العلمنة وبناء صرح المجتمع الحداثي، بدعوى “المساواة” فيه، تُسوَّى الأنثى بـالذكر بالتراب، حيث لا معنى لحياة متكاملة ولا دلالة لعيش مشترك…