وجهة نظر

مذبحة الفجر

كان الليل هادئا ساكنا و هلال شهر رمضان يتألق في سماء الخليل فيلقي عليها وشاحا فضيا ساحرا،امتد الظلام حتى كسا كل شي و بسط السكون رواءه على دروب المدينة، ومع رنين المنبه دبت الحركة بالبيت فاستيقظ من فيه لتناول السحور. فتح الاب النافذة فتدفق الليل الغامض متسربلا بنسيم ندي مفعم بشتى الطيوب. فأعواد الذرة الخضراء تنتصب ساكنة و أوراقها العريضة تتدلى في كسل.إرتفع اللغط بالبيت هنا و هناك، و بعد هنيهة التمت العائلة حول مائدة السحور على ضوء مصباح ضئيل يلقي أشعته الصفراء الخفاقة على ما نيط بجدران الغرفة، امتدت الأيادي في مرح يقضمون شرائح الرغيف و الشطائر المبللة بالعسل و الزبدة، فساد البيت صمت تتخلله أصوات المضغ الجماعي، و رشف أكواب الشاي بينما كان “سيدي” يردد بين الفينة و الأخرى :

– أسرعوا فأذان الفجر يقترب.
“الله أكبر… الله أكبر”، “لا إله إلا الله”.

و سرعان ما ارتفع أذان الفجر من على مئذنة المسجد الإبراهيمي توجهت نحو الفناء حيث يوجد طست معدني تقرفصت أمامه ممسكا بالصابونة أمررها بين يدي و ما أن فرغت من غسلها حتى ركضت مهرولا نحو غرفة نومي كي أرتدي جلبابي.

خرجت أدفع ساقي في فضاء الأرض متجها نحو المسجد، و في طريقي أدركت صديقي “رؤوف” فهو رفيق عمري من لا يعرفه من أبناء الحارة؟وسيم الخلقة، جذاب تتناسق ملامحه يلفت إليه النظر، لا تقع عليه عين إلا وشعرت نحوه بالحب و الاستبشار، طلق اللسان، حلو الاسلوب، قال و السعادة تنطق في عينه :
– حياك ألله يا يوسف.
– صباحك ورد اخي رؤوف.
– سمعت بأن هناك مشاداة بين الشباب و جنود الا حتلال ؟
– صحيح، فقد أخبرني صديقي “عرفات” أن الجنود هددوا المصلين بعد صلاة العشاء و التراويح. و الأكثر من هذا أن الجنود أزالوا كل الحواجز المحيطة بالمسجد الابراهيمي .
– أحس أن شيئًا ما يُدبر في الخفاء لغرابة المشهد.
قلت في لهجة رقيقة :
– الله يستر.

و بينما نحن في الطريق، عاينت “سيدي”و هو متجه نحو المسجد بخطى ثابتة، شيخ هرم قد نيف على السبعين من عمره، و العصا لا تفارق يده، و بلباسه التقليدي مرتديا القمباز ذلك الرداء الطويل المشقوق من الأمام، الضيق من أعلاه، و من على رأسه يضع “الكوفية” ذات اللون الأحمر و الأبيض،رمز المقاومة و الأصالة. شأنه شأن مشايخ الحارة، يحلو الجلوس معه، حسبك أن تسمع لتاريخ الخليل و مقاومة الفلسطينين للاستعمار البريطاني، و ما أعظم حكاية النكبة عندما تسمعها من فمه و هو يروي تفاصيل ما عاشه في طفولته. لا تفارق الابتسامة محياه فما يازال فتي الهمة و الإرادة، واسع الخبرة يأنس الخاطر لحديثه.

و ما أن اقترب منا حتى بدأته بالتحية، فرفع رأسه متوسما :
– ماذا دهاك يا صغيري ؟
– لا شي “سيدي”، غير أن لرمضان نكهة خاصة في مدينة الخليل
– كيف لا، و هي مدينة خليل الرحمن، في هذه المدينة طويت رداء شبابي، و ها أنذا أطوي فيها رداء شيخوختي.فألمالنكبة وعبق الشهادة يمتزجان بين أزقة وبيوت و حارات الخليل.

وجم قليلا، و ظل صامتا بعض الوقت، شمِلته بنظراتي فاستطعت على الفور أن أقرأ على سحنته الشقراء، أنه يفتش في ذاكرته عن بعض الذكريات القديمة، و يحاول أن يستجمع ما تفرق منها…ذهب بنا الحديث بعيدا، و أنا أستمع إليه غمرتني نشوة رائعة المذاق، فجأة سمعنا صوت إقامة الصلاة. فاتجه “سيدي” إلى الصف الثاني، بينما أنا و “رامي” كنا في أقصى الشمال و في مُصلّى الإسحاقيّة.

قراءة الإمام كانت مؤثرة تستثير الأشجان و تستذرف الدموع، طارت بأرواحنا إلى سدرة المنتهى، فخشعت القلوب و الآكام، و ساد الصمت المكان و امتزجت بتباشير الفجر. و ما إن سجد الإمام و من بعده المصلون حتى دبت حركة في خلف الصفوف، حيث بدأت طلقات الرصاص تدوي في الأجواء و نسمع أزيزها و شظايا الزجاج تتكسر، استمر ذلك عدة دقائق. احتقن وجهي و ارتعشت يدي، فقد شقت صيحات الرعب عنان السماء و هديرها الصاخب يصم لآذان. تبعثر المصلون في رحاب المسجد، و تشبع الجو بضباب حجب الرؤية بفعل قنابل الغاز المسيل للدموع، سقط الناس و أغمي عليهم. و أصوات تسمع من هنا و هناك تردد :

– الله أكبر و لله الحمد، حسبي الله و نعم الوكيل…

حاولت النجاة من الرصاصات المتطايرة، اتجهت خلف أحد أعمدة المسجد، أحاول اختلاس بعض النظرات، فإذ بي أرى إسرائيليا، نظراته القاسية تلمع ببريق الشيطان و بلحيته السوداء المهذبة، وعلامات الحقد و الغل ترتسم على ملامحه. كز على أسنانه في غيظ و هو يحمل بين يديه رشاشا، و نظرت إلى المكان فلا أرى إلا أدمغة المصلين تتطاير و رؤوسهم تتفجر. الدماء تسيل في كل مكان، و أصوات طلقات الرصاص تسمع من كل إتجاه. فجأة فإذا بأحد المصلين يتمكن من الانقضاض على الإسرائيلي الذي تسلل إلى خلف الصفوف و ضربه بأنبوبة إطفاء الحريق فطرحه أرضا. التم المصلون حوله، حاولت تقصي الخبر و تسللت بينهم . فوجدته جثة هامدة، و قال أحد المصلين :

– إنه الصهويني المتطرف باروخ جولدشتاينالقاطن في مستوطنة كريات أربع.

و ما هي إلا دقائق معدودات، حتى اندلعت المواجهات بين المصلين و جنود الاحتلال الذين تواطؤوا لتنفيذ المذبحة و إغلاقهم لبوابات المسجد لمنع المصلين من الهروب، اشتدت المواجهات و تم منع وصول سيارات الإسعاف لنقل الشهداء. كان المشهد مرعبا، فقد اخترقت شظايا القنابل والرصاص رؤوس المصلين ورقابهم وظهورهم.

“يا يوسف… يا يوسف” صوت التقطته أذناي من بعيد، هناك بمقربة من المحراب. إنه والدي ،اتجهت نحوه مسرعا و جدته مكفهر الوجه جامدا الملامح تنبئ عن ألم مكبوت، استجمع قواه و قال:
– جدك مصاب إصابة خطيرة.
دارت بي الأرض، تجمدت للحظات و أفقدني الخبر توازني، و هتفت بكلمات تخرج بصعوبة و قلت و أنا ابتلع ريقي في ارتباك: وين سيدي ؟
إنه هناك، بجوار المنبر حيث يلتقط آخر أنفاسه، إنها رصاصة إخترقت صدره اللاهث، أجهشت بالبكاء و دنوت منهفارتميت بين أحضانه، فقد احتقن وجهه و بريق عينيه يعطي الجواب، سدد إلي نظرات فاحصة و قال محاولا إرضائي:
– ما هذه الدموع التي تذرفها يا ابني ؟ متى كان الموت من أجل الوطن نكبة تستحق البكاء و الحداد ؟… يا إبني صحيح أن الموت كلمة مقيتة تعافها النفوس، لكنها أحيانا أمر عادي إذا كانت لغاية نبيلة و قضية عادلة، فموتنا من أجلكم يعني بقاءنا بينكم أحياء، إن صنتم الأمانة و بقيتهم على العهد.

قال والدي و هو يُربت على كتفي :
– لاتحسبن الذين قتلوا في سبيل لله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون.
– بعين ألله يا با .

آخر كلمات لي أسمعها من “سيدي” و الدموع تغرق خدي و الثأر يتفجر من نظراتي و ملامحي. لشد ما حزت كلماته في خاطري. و بينما أنا جالس بجوار الجثة و الدموع تتدفق رقراقة كالندى، تذكرت المجازر الصهيونية فكثيرة هي، لا حصر لها و لا سقف لبشاعتها.

فلا يمكن لتلك الذكرى أن تبرح مخيلتي، لانها أبعدتني عن ما كنت أهوى سماع حديثه كي أستقي من سجل حياته الدروس. استجمعت قواي و أرسلت تنهيدة حارة، ثم زحفت على أناملي إلى خارج المسجد. أما صديقي “رؤوف” فقدأصيب برصاصتين في الوجه والبطن أفقدته وعيه. رفعت عيناي الدامعتين المحمرتين إلى السماء و قلت:

– يا ألله…

كُلما استجمعت قواي، وشددت أزري، وضربت على قلبي، ودست كل مشاعري، إلا وانحدرت دموع حارة من عيني، فأمارات الألم و الأسى ترتسم على محياي، و غمامة من الهم و الاكتئاب انتشرت على جبيني…إنه فجر تلون بالدم و في صباح يوم جمعة. رفعت رأسي فإذا بعيني تتدفقان دمعا، كلما حاولت أن تسيل أمسكتها و أنا أتمتم بصوت خافت و أشدو :
منتصبَ القامةِ أمشي… مرفوع الهامة أمشي
في كفي قصفة زيتونٍ … وعلى كتفي نعشي
وأنا أمشي وأنا أمشي….