بنيعقوب يكتب: السلطة والسياسة والقانون في المغرب من ينتج من؟

علاقات غير ميسرة للفهم بين ثلاثي السلطة والسياسية والقانون في بحر لجي إسمه الدولة، لا تكاد ترى بينها تقاطعات واضحة أو نقط التقاء، أو توازي محددة في خريطتها. لا يستطيع المرء رسم الحدود الحقيقية، أو ترسيمها لكل مفهوم أو كتلة مفاهيم على حدى، ولا تستطيع أن ترتب المجالات الثلاث بفعل تداخلها أحيانا في جسد واحد، وبفعل غموض قنوات التصريف العمومي لأدوارها ومهامها، ولمجاري تزودها وتطعيمها. غير أن الإنطباع الخاص الذي يعلق بالذهن أثناء الملاحظة المجردة لسيرورات التشكل والتكون البنيوي للأجساد الثلاثة، المفروض فيها التكامل والإستقلالية في نفس الوقت، والمفروض فيها أيضا على غرار التجارب المتطورة أو حتى الإنتقالية التفاهم على نقط للإلتقاء العضوي ونقط للإحترام المتبادل لقدرات كل جسم و على رأسها قدرتي البت والمنع، هذا الإنطباع هو أن السياسي والقانوني لم يتحررا بعد من ممارسة الرقابة الذاتية، وفق مواصفات العهد القديم، على عقليهما وسلوكاتهما وعلى إنتاجهما وإستمرارهما في إنتظار العناية والتوجيه مع إصرارهما الواضح على الحفاظ على القابلية النفسية، الذهنية والتنظيمية للوصاية، رغم أن العهد الجديد أعطى إشارات بل أفعالا أحيانا كثيرة، تفيد تحرير حركتهما وتوسع مجالاتهما في الفعل العام.
وبذلك يحق لنا أن نتسائل:
هل وصل السياسي المغربي إلى مرحلة النضج التام لتمليكه أدوات إنتاج ذاته وإنتاج السلطة والقانون؟
هذا التساؤل الذي طرحه الباحثون في علم الاجتماع السياسي في المغرب بعد الإستقلال، ما يزال يجد لنفسه موطأ قدم في مغرب العهد الجديد، رغم أن البلاد تكون قد خطت خطوات بعيدة وواسعة في مجال الحريات والحقوق المدنية والسياسية. التساؤل حول طبيعة السلطة السياسية وطبيعة النظام ككل، لا يزال مشروعا وحيويا، في ظل التجاذبات والإستقطابات الحزبية والمذهبية الآنية وفي ظل الرجات الإحتجاجية التي عرفتها المنطقة منذ 2011. كذلك يصبح السؤال ملحا و قائما في ظل الحديث النخبوي حول سبل تطوير النظام السياسي، و حول محاولة تحديد هوية جديدة له على وقع الطفرات الدستورية و المؤسساتية التي راكمها خلال السنوات الأخيرة.
يمكن القول عموما أن السلطة السياسية في بلادنا بهرميتها المعروفة هي نتاج التارخ السحيق، حضنتها القبيلة و النسب و طعمها الدين و ساندتها الأرض و المال و أطاعها الناس كل من منظوره ليقرها المجتمع كثابت من ثوابته.
ليس هنا المجال لإعطاء درس في القانون الدستوري، و تعريفات السلطة السياسية، أو درس في علم السياسة و بنيات السلطة القائمة، و إنما هي محاولة لطرح أسئلة جيدة و صحيحة لعلها تحدث النقاش المتوخى، من أجل تحريك البحث و الدراسة حول مدى قدرة الفاعل السياسي على إنضاج قدراته البنيوية و الثقافية السياسية، لإنتاج نفسه في صيغة متشبعة بالقيم الديمقراطية و بالتالي في صيغة المتملك لأدوات إنتاج السلطة المؤسساتية و المعيارية لخدمة المصلحة العامة.
تساءل الكثير من الباحثين عن مركز السلطة الحقيقي في المغرب، و أنتجت العشرات من الأطروحات و المقاربات لفهم طبيعة النظام و السلطة منها من قاربها من خلال التقصي عبر التاريخ و حمولاته الثقافية و الفكرية، و منها من حاول فهم و تحليل بنيات المجتمع المؤسساتية و الذهنية، و منها من تناول عمقها الإقتصادي و آخرون اهتموا بمدلولها الديني و الرمزي. لكن ما يهمنا هو مدى التغييرات التي طرأت عليها تحت وقع التطورات و الإحتجاجات و التأثيرات الخارجية و الضغوطات المتنوعة كما يهمنا مدى ثباتها في قدرتها على إنتاج نفسها و إنتاج السياسة و القانون من خلال ممارستها لوظيفة منح الدساتير حينا و الأحزاب و المؤسسات و حتى التحالفات السياسية و الحزبية بشكل غير مباشر حينا آخر.
قد يبدو النظام للبعض نظاما برأسين تنفيذيين bicéphale، و قد رآه البعض نظاما برأسين تشريعيين و آخرون وصفوه بالشمولي حيث يتدخل رئيس الدولة حتى في المجال القضائي إن عبر ترأسه لأعلى مؤسسة قضائية في البلاد أو عبر التدخل في المساطر القضائية و في الأحكام عن طريق ممارسة العفو. و رآه آخرون نظام خلافة إسلامي حيث الخليفة و الأمير أو الإمام هو صاحب السلطة الحقيقي و أن القضاء و الحكومة و التشريع مجرد وظائف تستمد سلطتها و قوتها منه و منهم من قرؤوا السلطة في المغرب من منظور أمير ميكيافيل فكان الحديث عن المخزن التاريخي و تطوره و توسعه، فاختطلت التصورات و الإسقاطات. غير أن تجربة الإنتقال الديمقراطي و إنفتاح السلطة على قيم التدبير الديمقراطي التشاركي يخول التساؤل عن السرعة التي يسير بها السياسي موازاة مع سرعة السلطة و القانون. ليبقى التساؤل قائما عن دور السياسي و النخبة المثقفة في تطوير النظام و إنضاج التجربة الإنتقالية وفق إرادتها المستقلة تماشيا مع إرادة السلطة، هل ستبقى في إنتظار نظام ممنوح و هوية وطنية ممنوحة، أم يتعين عليها إستغلال الإنفتاح القائم لتوسيع قدراتها على الفعل الإنشائي للسلطة و القانون؟
من خلال النقاش الأخير حول مشروع تعديل القانون التنظيمي لإنتخاب أعضاء مجلس النواب، و النقاش الدائر حول العتبة و كذلك قانون الأحزاب تبين أنه حتى الحكومة و الأحزاب المتحالفة فيها، لا تملك السلطة الحقيقية أو الإرادة الفعلية و التامة لإنتاج نصوص قانونية تعتبر مصدر إنتاجها هي نفسها. و بذلك قد يستخلص أن السلطة مستقلة عن السياسي إلى أجل غير معلوم، رغم تمتيعه بحصص من المساهمة و المشاركة في إدارة جهاز الدولة. أو أن السلطة ليست لها الإرادة حاليا للتفريط في جزء من مجالها المحفوظ و تصر بذلك على الإحتفاظ بأداة القانون لإنتاج و توجيه السياسي المرغوب فيه على مقاس معين، رغم مقاومة السياسي و محاولته خلق سوابق جديدة لامتلاك القانون و جعله أداة له لمواجهة السلطة و لمحاولة إنتاجها أو التشارك معها أو حتى رسم حدود جديدة معها لملاقاتها عند نقطة يتفق حولها الجميع؟
هل السلطة ثابتة و السياسي متغير يصنع تحت أعينها بواسطة الأداة القانونية، و غيرها من الأدوات لتمكينها من الدوام و البقاء دون النية في إحداث التغييرات و التطورات المرجوة لنظام ديمقراطي فيه توزيع عادل للسلطة و القرار؟ هل تمارس السلطة الفعلية الوظيفة التشريعية الفوقية لإنتاج سياسييها و إنتاج نفسها في شكل جديد كلما إقتضت الظروف و البيئة العامة ذلك، سواء البيئة الإجتماعية و الإقتصادية أو الإقليمية والدولية؟
هل نحن أمام تطور حقيقي لبنيات النظام أم أمام إعادة الإنتاج داخل نفس الهرمية لتوزيع السلطة بقواعد حديثة؟
هل تجاوز السياسي مرحلة البدايات السياسية المتميزة بالشخصنة و رفض المختلف و بالتشبت بمواقفه و العند و حب التملك الفردي ليعيش مرحلة الرغبة الحقيقية في التعاون و التكاتف من أجل البناء و الخدمة العمومية؟
أسئلة ليست بخافية عن الباحثين في العلوم السياسية و القانون الدستوري يتعين مواصلة مطارحتها من أجل إنتاج تصورات جديدة، قد تفتح الأفق لتطوير النظام برمته في ظل التضخم الحاصل في المنتوج الحزبي، و في ظل التخبط في تحديد تصورات واضحة حول الهوية السياسية و الإنتقال الديمقراطي.
من هنا يتعين عودة النقاش الجدي حول العمل السياسي في بلادنا، حول أهدافه و أدواته، حول تصوراته و برامجه، و لن يتيسر ذلك إلا بإعادة إنخراط أو إدماج المثقفين في دورة الإنتاج السياسي، حتى لا تصبح السياسة مقاولة يشغلها المعطلون فكريا تنتج سلعا من البداية منتهية الصلاحية أو تحتوي على مواد مسممة و مشلة لحياة و صحة الأمة.