وجهة نظر

التيه الهوياتي.. من تيفيناغ إلى الحرف اللاتيني

عندما تم اختيار حرف تيفيناغ لكتابة الأمازيغية، من قبل المجلس الإداري للمعهد الملكي للثقافة الأمازيغية في 30 ماي 2003، بتصويت أعضائه الإثنين والثلاثين، أحسست أن هذا الاختيار لم يكن موفقا، ولم يكن مبنيا على خبرة الخبراء، ولا على رأي أصحاب التخصص من اللغويين والباحثين اللسانيين، وإنما كان قرارا إيديولوجيا متسرعا محكوما بهواجس إيديولوجية واعتبارات سياسية، مثل التنصل من اعتماد الحرف العربي، وتجنب حرج اعتماد الحرف اللاتيني، والهوس الهوياتي المتمثل في الحرص الزائد على التميز والتفرد.

اليوم، وبعد حوالي ثلاثة عشر عاما من تبني القرار، ومن كتابة الأمازيغية بحرف تيفيناغ، إذا ببعض المتحمسين لحرف تيفيناغ إلى درجة التعصب، يعترفون متأخرين بخطإ اعتماده في كتابة الأمازيغية، ويدعون صراحة إلى اعتماد الحرف اللاتيني في ذلك، بمبرر أن حرف تيفيناغ فشل في تعليم الأمازيغية لأبناء المغاربة، وفرض عليها نوعا من العزلة اللغوية في المشهد اللغوي الوطني والكوني، وحكم عليها بالمحلية والإقليمية إلى الأبد، وهذه الدعوة وإن كانت اعترافا بخطإ لغوي استراتيجي، والاعتراف بالخطإ فضيلة كما يقال، إلا أنها دعوة متأخرة جدا، بعد أن انطلق قطار الأمازيغية في السكة الخطأ، وبعد أن قطع منها شوطا غير يسير، ومعلوم أن أخطاء البدايات تكون محبطة ومكلفة للغاية، لأن ما حسنت بدايته حسنت نهايته، وما ساءت بدايته صعب تقويمه وتعديله، ثم إن هذه الصيحة المتهورة، وإن كان شقها الأول صحيحا، إلا أنها من الحق الذي يراد به باطل، ومن باب تصحيح خطإ بخطإ أكبر منه، وهو التمهيد لتزويج الأمازيغية بالحرف اللاتيني غير الكفء لها، الغريب عنها كل الغرابة، والبعيد عنها بعد المشرق من المغرب، والذي سيحكم عليها بعزلة محلية وكونية أشد وأكبر في حال اعتماده لا سمح الله.

ولأن الحكومة شرعت هذه الأيام في إعداد القانون التنظيمي للأمازيغية، فإنني – كمواطن وباحث – أرى الفرصة مواتية لتجديد الدعوة إلى إعادة النظر في موضوع الحرف هذا، وإلى ترجيح المصلحة الحقيقية للغة والثقافة الأمازيغية، كرصيد لغوي وثقافي مشترك لكل المغاربة، وتقديم مصلحة المغرب والمغاربة، ومصلحة الهوية المغربية المشتركة، وكلها تقضي بكتابة الأمازيغية لا بحرف تيفيناغ ولا بالحرف اللاتيني، وإنما بالحرف العربي، وإليك الحجج والأدلة:

أولا: أن كتابة الأمازيغية بالحرف العربي من شأنه أن يسهل انتشارها، وييسر تعليمها وتعلمها، وأن يخرجها من زاوية العزلة والغربة التي فرضها عليها حرف تيفيناغ، الذي لا يشعر المغاربة بكثير ميل وحماس إليه، لأنه فرض عليهم فرضا، ولم يحترم في اعتماده رأيهم وإجماعهم التاريخي، وقد عبرت فئات واسعة من المغاربة – في المدن خصوصا – عن رغبتها في تعلم الأمازيغية، إلا أنها لم تخف تبرمها وامتعاضها من حرف معقد وغريب اسمه تيفيناغ، مع وجود الحرف العربي اليسير والمألوف، ولا حاجة إلى التذكير بأنه لا نجاح للغة من لغات العالم ما لم تنجح في موطنها الأصلي، ولا انتشار لها في الأرض ما لم تنتشر بين أهلها أولا، فلا يمكن للأمازيغية أن تنتقل إلى العالمية ما لم تنجح في اختبار المحلية، ولا أن يتكلمها الأوربيون والأمريكان ما لم يتكلمها المغاربة ويتقنوها أولا، وأقرب طريق وأيسره إلى ذلك إنما هو كتابتها بالحرف العربي.

ثانيا: أن اعتماد حرفين في الكتابة (الحرف العربي وحرف تيفيناغ)، من شأنه أن يخلق نوعا من الشتات النفسي والانقسام الهوياتي بين المغاربة، وأن يضرب بسور من حديد بين المجموعتين الكبيرتين المكونتين للأمة المغربية (العرب والأمازيغ)، ومن شأنه توسيع هوة التميز والتفرد والانطواء، وتهميش القواسم المشتركة وعناصر الوحدة بين المغاربة، في حين أن كتابة الأمازيغية بالحرف العربي، سيطبع المشهد اللغوي الوطني بطابع الوحدة والتنوع في آن واحد، وسيعزز الهوية المغربية المشتركة، وسيقوض أسباب التعصب والتشدد اللغوي، وسيقوي الشعور الجمعي بكون العربية والأمازيغية لغتين لجميع المغاربة، لا أن لكل مجموعة لغتها الخاصة بها، وأما اعتماد الحرف اللاتيني الذي ينادي به البعض، فإنما يعني شيئا واحدا: وأد الأمازيغية في مهدها وتكريس المزيد من عزلها وإقصائها.

ثالثا: أن كتابة الأمازيغية بالحرف العربي يمثل إجماعا شعبيا تاريخيا طوعيا واعيا للأمازيغ المسلمين، وليس استلابا لغويا ولا ثقافيا كما يزعم البعض، فإن الأمازيغ أذكى من أن يخدعوا أو ينصب عليهم، وتحديدا في أمر خطير وذي بال مثل اللغة والحرف والهوية، في حين أن اختيار حرف تيفيناغ أو الحرف اللاتيني كما يدعو إليه البعض اليوم، إنما هو اختيار قلة من النشطاء المتحمسين، الذين غلبت عليهم السياسة والإيديولوجيا، وقلت عندهم الخبرة والتجربة، فأساءوا إلى الأمازيغية وعزلوها، من حيث ظنوا أنهم خدموها وانتصروا لها.

رابعا: أن بالحرف العربي كتب تراث أمازيغي معتبر من المعارف والعلوم والفنون، يمثل تاريخ الأمازيغ المجيد وهويتهم المتفردة في ظلال الإسلام وفي رحاب القرآن، فاعتماد الحرف العربي وصل للحاضر بالماضي، وبناء على الذات التاريخية، والشخصية الحضارية، التي يمثلها التراث الأمازيغي المكتوب بالعربية، وليس بدءا من الصفر، وانطلاقا من لا شيء، وكأن الأمازيغ لا تاريخ لهم، ولاحضارة، ولا ذاكرة، فالرجوع – إذن – إلى كتابة الأمازيغية بالحرف العربي رجوع إلى الأصل، والرجوع إلى الأصل أصل.

خامسا: أن بعض التبريرات “اللغوية”، وبعض التسويغات “اللسانية”، التي يسوقها بعض الباحثين، ويبنون عليها ما يدعونه من “عدم صلاحية الحرف العربي لترجمة الأصوات الأمازيغية”، فإنها لا تعدو أن تكون أعذارا إيديولوجية، وتبريرات غير علمية، للتنصل والتهرب من الحرف العربي، لأن هذا الحرف الذي استطاع ترجمة كلام الله تعالى وحفظه للعالمين وتخليده إلى يوم الدين، على ما فيه من ظواهر صوتية متنوعة وأنماط لغوية معجزة، لا يمكن أن يعجز أو يضيق عن ترجمة لسان خلق من خلقه الله وأمة من عباد الله.

وختاما، وحتى لا يتسرع البعض في اتهام كاتب هذه السطور بالعروبية والقومجية، أو بالسلفية والإسلاموية، وغيرها من التهم النمطية الجاهزة التي تقطع الحوار وتفسد النقاش العام، فإنني أحب أن أذكرهم بأنني أمازيغي الثقافة واللسان، وإن كنت عربي الدم، وبأنني أعتز بانتمائي الأمازيغي اعتزازي بانتمائي العربي سواء بسواء، كما أعتز قبل ذلك وبعده بانتمائي إلى القرآن الكريم، وإلى الإسلام العظيم، وإلى الأمة الإسلامية المجيدة، ولا أجد بين هذه الانتماءات أدنى تعارض، فأنا أمازيغي عربي مسلم كأي مواطن مغربي، وبلا حرج ولا تشدد ولا تعصب، ولله الحمد والمنة، وإنما أردت النصح لإخواني، والخير لوطني ولأمتي، والتنبيه على أن الجمع بين الوحدة والتنوع اللغوي، خير من التعدد اللغوي المطلق المقصود لذاته، وخير من الاغتراب اللغوي والارتماء في أحضان الآخر.