وجهة نظر

عندما نجمع الكتب نجمع السعادة.. التجربة السعودية نموذجا

تعرف بلادنا بفضل موقعها الجيوسياسي وحركيتها الثقافية المشهودة والمتجددة إقامة عدة معارض أهمها المعرض الدولي للكتاب الذي ستضيف العاصمة الاقتصادية دورته الثانية والعشرين في 12 من شهرفبراير الجاري، حيث يلقى اهتماما خاصا من لدن وزارة الثقافة المغربية ودعما كبيرا من جل الفاعلين الثقافيين من كتاب وناشرين وأدباء ومهتمين، وتشهد فعالياته أيضا حضورا لافتا من معظم البلدان الصديقة والشقيقة، كما يحظى بتغطية خاصة من قبل وسائل الإعلام الوطنية والدولية، وتزامنا أيضا مع تنظيم عدة معارض للكتاب ببلادنا كالمعرض الوطني للكتاب والكتبيين بالدار البيضاء في دورته الثامنة والمعرض الدولي للكتاب والفنون المقام بطنجة، في دورته التاسعة عشر شهر ماي، ومعارض أخرى لا تعد محلية ودولية في جل المدن المغربية وفي مختلف المجالات.

ولأني تشرفت بزيارة معرض الرياض الدولي للكتاب المقام في النصف الأول من شهر مارس من السنة الفارطة بدعوة كريمة من وزارة الثقافة والإعلام بالمملكة العربية السعودية، وسنحت لي الفرصة للإطلاع على الكثير من المشاهد التي أثارت انتباهي وشدت اهتمامي. سجلت خلالها ملاحظات ارتأيت لأهميتها نقل بعض المشاهد منها للمتتبع والمهتم المغربي للارتقاء بمعارضنا بناء على ما دونته من ملاحظات، كانت هته الزيارة مناسبة لأكون فكرة أُجملها في أسطر وأنقلها للمهتم والمتتبع المغربي والمشرف الإداري، ومنهم العاملين في وزارة الثقافة المغربية، خصوصا أني أحتفظ بتجربة متواضعة في هذا المجال، من خلال حضوري المتكرر كمشرف على الجناح السعودي في معرض الكتاب بالدار البيضاء في دورات عديدة، وحضرت فعاليات معرض الرياض من ألفها إلى يائها، وتمكنت من نسج عدة علاقات مع المسؤولين والمثقفين هناك، معترفا بحفاوة الاستقبال وكرم الضيافة، والاهتمام الملاحظ من خلال تكليف لجنة خاصة من قسم العلاقات العامة بالوزارة لخدمة الضيوف من خارج المملكة، وقد أتيحت لي الفرصة للتعرف عن قرب على معالي وزير الثقافة والإعلام الدكتور عادل الطريفي وإلى جانبه وكيل الوزارة ناصر الحجيلان ومدير البرنامج الثقافي صالح الغامدي ومدير شؤون المكتبات عبد الله الكناني ونائبه عبد الله الضيف إضافة إلى الأستاذ محمد الدهيش، الذين يعود لهم الفضل بعد الله في نجاح تلك الفعاليات حيث تحول المعرض إلى سوق عكاظ جديد تتلاقح فيه الثقافات وتتأجج الروابط وتتقوى بين مثقفي مختلف البلدان وتتوطد، وتلتهب العواطف وتشتد، فلا حواجز تحول بينك وبين لقاء أي مسؤول مهما علت مكانته، إذ أن الاستماع خلق سائد بكل معانيه الإنسانية خصوصا لما يُكتشف أنك ضيف مغربي، فتزداد الحفاوة وحرارة اللقاء.

وأول ما شد انتباهي بعد هذا الذي ذكرت من استقبال حار واقتران الكرم والجود، بتواضع المسئولين والقائمين وتواصلهم الجيد والإيجابي مع الضيوف وكافة المدعوين.

أ ــ حرص على الصلاة قل نظيره.

حيث يصير المعرض بأكمله بممراته وجل أجنحته ساحة للصلاة يتزين بتكبير واحد وركوع وسجود واحد، تتوقف حركة البيع والشراء ويتحول إلى مصلى جميل، وتتوقف حركة المرور، ويتحول الجو الصاخب الذي يعج بالحركة والضوضاء إلى جو ساكن وقور، لا أحد يتذمر أو يعترض، بل ينخرط الجميع في صفوف متراصة وحركات موحدة وكأننا في صالة رياضية كبيرة، أو في استعراض عسكري عظيم، الكل يشترك في تلك الحركات الموحدة في خشوع وسكينة، فإذا انتهى القوم من الصلاة، عادت حركة البيع والشراء وتصفح الكتب كما كانت، ولا يسع المرء وهو يرى تلك المشاهد إلا أن يفخر بالانتماء لهذا الدين العظيم الذي وحد القلوب وإن فرقت الحدود بين الأجساد، ينسيك ذلك غربتك وبعدك عن أهلك وأصحابك، متمنيا أن تتكرر هذه المشاهد في المغرب الحبيب بلد الفتوحات التي انطلق منه الآذان متجاوزا أمواج المتوسط إلى الأندلس بعد أن فتح المغاربة قلوبهم لهذه الرسالة الربانية واحتضنوها، وأن تصبح ساحاتنا أيضا فرصة لانخراط الشباب والشيوخ مجتمعين في تجديد العهد مع الله تأدية لفرائضه، تزكية للنفس وتقوية للإيمان.

ب ــ السعوديون يشترون الكتب بنهم .

مشاهد الزرافات من السعوديين، وخصوصا الشباب المتزاحم في مداخل المعرض وبين أجنحته، تدفعنا نغير نحن المغاربة إلى تغيير نظرتنا المتشائمة اتجاههم، فنحن هنا في المغرب غالبا ما نتصور السعودي مجرد مترف يلهث خلف مختلف المُتع، مُسرعا خلف الثروة، باحثا عن اللذة، بفضل ما أفاء الله عليه، والحقيقة أنه ليس كل السعوديين كذلك، فأول ما يثيرك وأنت تلج صالة العرض، تلك العربات التي يجرها الزوار خلفهم وكأنهم يلجون سوقا للخضار كما تعودنا نحن هنا في المغرب حين نتسوق، ولكنك تصاب بالدهشة وأنت ترى تلك العربات مكدسة بما ألقى فيها الشاب السعودي من كتب حتى أنه لا يقوى على جرها إلا أن يستعين بسيارته المركونة قريبا من المعرض، أيضا جعلني هذا المشهد أتفاءل بالخير وأتيقن أن المستقبل الجميل آت لا محالة، لأن الأمة المقبلة على الكتاب أمة لا تزال حية وأن القلوب الشابة التي تتسابق على الرواية والقصة وكتب التاريخ والسير إنما تنحت مسيرها نحو العلا. والخوف على الأمة اللاهية فحسب.

ت ــ مجانية الولوج للمعرض.

فلا تشترط إدارة المعرض أو تفرض رسوما على الراغبين في ولوج صالة العرض مما يتيح الفرصة للجميع لزيارته، ويُمَكِّن بالتالي من الاطلاع على جديد الإصدارات ويقع الزائر في شباك الإغراء، وهكذا يتم الترويج بفاعلية للكتاب، ويسهم بشكل جيد في توسيع دائرة الاهتمام بالقراءة وتعميم المعرفة فهي السبيل لحماية شبابنا من التطرف والانحراف.

أما أن يتم تغليب المصلحة المادية والتجارية، فذلكم دلالة على انحطاط مستوى التفكير وقزميته، لأن استحواذ المادة دال على قصر نظرة القائمين على معارض الكتاب، إذ وجب التركيز على صناعة الإنسان وتأهيله وتأطيره بدل التفكير فقط في طرق الاستفادة منه ماديا وسلب ما في جيبه، وترك الشباب أسيرا بين فكي التاجر والناشر اللاهث خلف الربح المادي هو الخطأ الأكبر.

ث ــ الاستراحات المسائية..تقاليد سعودية عريقة.

في الأخير دعوني أختم بهذه القصاصة التي أحب أن أثير بها انتباه مثقفينا في المغرب السعيد إلى عادة حميدة أخرى وسلوك راق شد انتباهي وذكرني بأيام العرب الخوالي، تلكم هي الصالونات والمجالس التي يقيمها السعوديون مساء ويسمونها استراحات، وهي أماكن للقاء بين مختلف المكونات المجتمعية، قبيلة، أوعائلة أو نخبة من الأساتذة والمثقفين، فقد تلقيت دعوة من الملحق الثقافي السعودي السابق في المغرب الدكتور ناصر البراق وحسبتها مجرد دعوة للعشاء، كأي عشاء، ولكنها كانت على الطريقة السعودية شكلا ومضمونا، قاعات فخمة واسعة وفراشها من الزرابي العربية التقليدية التي ترمز إلى مدى تمسك السعوديين، رغم ما يشاع عنهم بتقاليدهم العربية الأصيلة حيث يفترشها الحضور، الاستقبال غالبا ما يكون ببخور العود العربي الفاخر مع ابتسامة بادية على محيى المستقبلين، وبعد الترحاب والسلام والعناق تتسلم كيسان من الشاي الأسود المطهى على الطريقة التقليدية فوق الحطبـ، يقدمه بترحاب وارف أصغر القوم سنا تأدبا وتواضعا، أما الوجبة الرئيسية في أغلب تلك الأمسيات فليست سوى صحون الكبسة، وهي أرز مفروش على صحن كبير يعلوه خروف ممتد، يذكرك بمجالس امرؤ القيس وأبي العتاهية والمتنبي، وفوق هذا الكرم العربي تتفاجأ بأدب رفيع لا يزال المجتمع السعودي يحافظ عليه ويتمسك به، إذ يثب القوم جميعا قياما فور دخول وافد جديد لا فرق في ذلك بين كبير أو صغير، وحين يعلم القوم أنك جئت من المغرب فإنك ستحظى بمزيد من التكريم والتقدير والحظوة.

حينما عدت إلى الرباط صرت أردد كلما تذكرت المعرض والندوات والأمسيات وتهافت الشباب على الكتب وصحون الأرز المقدمة في الأمسيات، كانت بحق مجالس ثقافية عادت بي إلى الزمن الجميل يلقى فيها الشعر بكل ألوانه وأجناسه، ويتناوب فقهاء اللغة والفلسفة على الكلمات الجاذبة، فكأنني سافرت ليس إلى السعودية التي تضاهي طرقها السريعة اليوم طرق باريس ومدريد، وناطحات السحاب بها تغزو الفضاء كشبيهاتها في لندن ونيويورك، ولكن إلى سقيفة بني ساعدة، التي منها عدت بهذه الذكريات إلى الرباط، لربما أشهد يوما مُؤَذِّنا ينادي في ساحات معارضنا حي على الصلاة، فيسرع قومي إليه ملبين، الله أكبر، تلبية لمنادي الرحمن.