منوعات

الأمازيغية والعربية وجهان لعملة واحدة

 في خطاب افتتاح الدورة الأولى من السنة التشريعية الخامسة من الولاية التشريعية التاسعة للبرلمان، دق الملك محمد السادس ناقوس التنبيه إلى أمور وصفها بـ”شديدة الأهمية والحساسية” مطلوب إنجازها في مدة حدد الدستور آخر آجالها في نهاية الولاية التشريعية التي افتتحها. وكان على رأس تلك الأمور مشروع القانون التنظيمي المتعلق بتفعيل الطابع الرسمي للغة الأمازيغية. وعبر الملك عن رسائل حيوية في الموضوع، هي بمثابة خارطة طريق، تدور حول بيان أهميته، وفلسفة مقاربته، والمنهج الرصين في معالجته، وضرورة تدبير المتبقي من الوقت لإنجازه في آجاله التي حددها الدستور.

وفيما يتعلق بالأهمية، نبه الملك محمد السادس إلى طبيعة النصوص التشريعية الواجب تقديمها للمصادقة البرلمانية في السنة التشريعية الجارية، و وصفها بكونها “شديدة الأهمية والحساسية”. و ذكر على رأسها مشروع القانون التنظيمي لتفعيل رسمية الأمازيغية. والواقع أن كلمتي “أهمية” و”حساسية” كلمتان دقيقتان ينبغي لكل المعنيين بملف الأمازيغية من أجهزة تشريعية وتنفيذية ومجتمع مدني ناضل لأزيد من 5 عقود “من أجل هذه اللحظة التاريخية” استحضار عمقهما ودلالتهما في توازن يخدم الأمازيغية والمصلحة العليا للوطن. و إذا كانت أهمية تفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية تنطلق من تنفيذ مقررات الدستور الذي اعتمده الشعب المغربي وارتضاه، فإن الأهمية الحقيقية لذلك تتجلى في إنصاف الأمازيغية لغة و تاريخا وحضارة، وما من شأن ذلك الإنصاف أن يخلفه في نفوس المغاربة من ارتياح، وفي المجتمع المغربي من التمكين لعناصر استقراره وتلاحمه. لكن التعاطي مع القضايا اللغوية والتاريخية والإثنية لا يخلو أبدا من حساسية ليس في الوسط الشعبي بل في أوساط النخبة كذلك. وتلك الحساسية تكون لها أسباب كثيرة ومتشعبة، أهمها يرجع إلى مخلفات فترة عدم الإنصاف. و هذا ما يفرض تعاملا حكيما وراقيا مع الملف.

وفيما يتعلق بفلسفة مقاربة ورش تنزيل دسترة الأمازيغية، نجد أن مفردتي “أهمية” و”حساسية” المشار إليهما سابقا، تحددان عناوينها الكبيرة. وهذه الفلسفة يمكن القول إن الخطاب الملكي ركزها في فقرتين مختلفتين، وبشكل واضح وصريح. الأولى حين قال: “ففي ما يخص مراحل تفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية لتقوم مستقبلا بوظيفتها، يجب استحضار أن العربية والأمازيغية ، كانتا دائما عنصر وحدة ، ولن تكونا أبدا سببا للصراع أو الانقسام”. أي أن فلسفة التعاطي مع الملف مركزة في كلمة “وحدة”، وحين نقارب الملف على أساس أن الأمازيغية و العربية ينبغي أن تشكلا كما كانتا من قبل عنصر وحدة، فهذا يعني ضرورة الترفع وضرورة تجنب كل ما يجعلهما سببا للصراع و الانقسام. ومن المعلوم أن المجتمع المغربي يحتضن مدافعين عن اللغة العربية ومدافعين عن الأمازيغية، وهذا ينبغي النظر إليه وفق الفلسفة الملكية السابقة على أنه تكامل وليس تضاد، فالأمازيغ عبر التاريخ أحبوا العربية دون أن يتخلوا عن الأمازيغية، والعرب قبل فترة القوميات في القرن العشرين، لم يحاربوا الأمازيغية و لا اعتبروها عدوا ينبغي استأصاله. فتعايشت اللغتان في المجتمع المغربي بسلام. والدفاع عن اللغتين ينبغي أن تحكمه الفلسفة الموحدة، وأن الدفاع عن أية لغة ينبغي أن لا يكون ضد اللغة الأخرى بل ضد التهميش وضد المنافسة الشرسة للغات الأجنبية، بمعنى أن الدفاع عن اللغتين العربية والأمازيغية ينبغي أن تحكمه نظرة وطنية لا تفرق بينهما، و لا تقابل بينهما، بل تجعلهما في مقابل اللغات الأجنبية ومقابل سياسات التهميش. إننا أمام مستوى جد راق من النظر إلى التعدد اللغوي ينبغي أن يكون محور تمرين سياسي يومي، ومحور تربية وتكوين للأجيال.

الفقرة الثانية التي تركز فيها بعد أساسي لفلسفة التعاطي مع ورش تنزيل دسترة الأمازيغية هو في قول جلالته: “إن ما يهمنا ليس فقط المصادقة على القوانين ونشرها في الجريدة الرسمية، وإنما أيضا تفعيل هذه التشريعات وتنصيب المؤسسات” والكلمة المفتاح في هذه الجملة هي “تفعيل”. فالغرض من إخراج القانون التنظيمي حول الأمازيغية لا ينبغي أن تحكمه النظرة الشكلانية القاتلة، أي أن التشريع في هذه القضية المهمة والحساسة لا يتعلق بمجرد مزايدات سرعان ما سينقلب عليها الجميع بجعلها لا تخرج من أوراقها إلى الواقع. بل ينبغي النظر إلى الموضوع على أننا بصدد وضع تشريع للتطبيق، وهذه مسألة مهمة لحشد بعد المسؤولية في التعامل معه.

على مستوى المنهج، تفرض أهمية الموضوع وحساسيته مقاربة منهجية مناسبة تستحضر فلسفة التعاطي معه. وفي هذا الصدد يقول الملك في خطابه: “فهذه القضايا الوطنية الكبرى تتطلب منكم جميعا، أغلبية ومعارضة، حكومة وبرلمانا، تغليب روح التوافق الإيجابي والابتعاد عن المزايدات السياسية”. فأول ما ينبغي العمل عليه هو عدم اعتبار مشروع القانون مشروعا الحسم فيه سيكون بمنطق الأغلبية والمعارضة، فالأمر يتعلق بقضية وطنية كبرى لها أهمية وحساسية كبيرتين. مما يتطلب العمل بـ”روح التوافق الإيجابي والابتعاد عن المزايدات السياسية” في الموضوع. وهذا التوافق الإيجابي هو الذي وضحه الملك في آخر الخطاب بالقول: ” لذا، ندعو لاعتماد التوافق الإيجابي، في كل القضايا الكبرى للأمة. غير أننا نرفض التوافقات السلبية التي تحاول إرضاء الرغبات الشخصية والأغراض الفئوية على حساب مصالح الوطن والمواطنين، فالوطن يجب أن يظل فوق الجميع”. وهذا يؤكد أن التوافق ليس لإرضاء أشخاص أو فئات، ولكن لخدمة الوطن والمواطنين، وهو ما يعني أن لا مجال للابتزاز السياسي سواء كان من أنصار الأمازيغية أو من “خصومها” إن وجدو. وبالطبع لا يمكن تصور توافق إيجابي على حساب الحقوق الأساسية.

ولا شك أن تحقيق التوافق يرتكز على عدة مبادئ و قواعد كبرى معروفة، و من أهمها إشراك جميع المعنيين والحوار الواسع والنقاش العمومي الهادف. وفي هذا السياق تأتي أهمية إشراك المجتمع المدني في هذا الاعداد لما راكمه من تجربة رائدة وما له من جاهزية في موضوع مشروع القانون التنظيمي لتفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية، عبر عنها بالزخم في المذكرات ومسودات مقترحات القوانين التي أعدها منذ مدة.
و على مستوى التدبير المتبقي من الوقت لإنجاز مشروع القانون في آجاله التي حددها الدستور، نبه الملك البرلمانيين إلى أن ما ينتظرهم من عمل خلال السنة الأخيرة في ولايتهم التشريعية ” لاستكمال إقامة المؤسسات، لا يستحمل إضاعة الوقت في الصراعات الهامشية”. مذكرا إياهم بكون المدة الزمنية المتبقية لإخراج القانون التنظيمي للأمازيغية وباقي المشاريع و المؤسسات إلى حيز الوجود، حدد الدستور في فصله 86 آخر أجلها في نهاية هذه الولاية التشريعية لعرضها للمصادقة في البرلمان. وسنة واحدة ستبدأ بمناقشات قانون المالية ستضاف لمناقشات قوانين كبيرة ومهمة وحساسة مثل القانون التنظيمي حول ترسيم الأمازيغية، لذلك لابد من التنبيه الاحترازي إلى عدم تضييع الوقت، وأخطر عامل يتهدد الوقت بالضياع وأضاع من أوقات المؤسسة التشريعية بالفعل الكثير، هو الصراعات الهامشية.

إن الذي نتوقعه، بعد الخطاب الملكي، في التعاطي مع ورش الأمازيغية، هو الإسراع إلى إطلاق فعاليات هذا الورش، و اعتماد المقاربة الشاملة و الديموقراطية التشاركية الحقيقية، والنقاش العمومي، والنجاعة في التعاطي مع الوقت ومع المجتمع المدني