من العمق

عدالة انتقائية انتقامية

تؤكد العديد من المؤشرات والوقائع في مغرب اليوم أن شعار “عدالة انتقائية وانتقامية” ما يزال عصي على التجاوز والنسيان رغم دينامية المبادرات الإصلاحية والأوراش المفتوحة والتي تحظى برعاية سامية، غير أنه ولكل الأسف ما تزال المياه تجري تحت أرجل المصلحين وما يزال شعار استقلالية القضاء موضوع اتهام ونقاش، وأن ثمة مصالح خاصة سياسية وتجارية تتوافق على قاعدة الفساد، وأن تحريك العديد من المتابعات وسرعتها وسياقاتها وانتقائيتها وانتقاميتها تفيد بأن شعار العدل كقوام للدولة يظل شعارا جميلا دوننا وإياه الكثير.

فمن يفسر للرأي العام كيف تتم متابعة حميد شباط والاستماع إليه عن موضوع يهم مقال نشر على موقع حزب الاستقلال دون أن تكون له مسؤولية مباشرة عن الموضوع كما يحددها قانون الصحافة والنشر في سابقة من نوعها، في سياق سياسي مطبوع بتناقض ثابت بين قوى الإصلاح والديمقراطية وقوى الفساد والسلطوية وتناقض آخر هم أصحاب المصالح حيث فضح اختلافهم التناقضات بينهم والتي لم يكن شباط بعيد عنها منذ زمان، لكنها لا يمكن أن تعمي العين عن الاستهداف وتوظيف مؤسسة في الدولة للانتقام وتصفية الحسابات، وعلى عكس ذلك قدمت شكايات عدة في شخصيات سياسية لكن لم تحرك في حقهم أي متابعة.

ومن يشرح للرأي العام كيف تتم متابعة شباب الفيسبوك بتهمة “الإشادة بالإرهاب” في واقعة اغتيال السفير الروسي في تركيا نموذجا، ويترك شيخ مثل أبو النعيم يطلق التكفير والتهديد والاتهامات يمنة ويسرة، وكيف لا يتم اعتقال من زاروا دولة مجرمة رغم وجود نص صريح في القانون الجنائي يجرم مثل تلك السلوكات ويعاقب عليها، بل بالرغم من تقديم شكاية في الموضوع، وكيف لا يتم اعتقال آخرون حرضوا على الكراهية والميز العنصري “بوجههم حمرين” على الفيسبوك والأمثلة كثيرة على انتقائية العديد من المتابعات وانتقاميتها لأسباب قد تكون قديمة أو جديدة حيث يتم الترصد والتكييف.

إن الأمثلة كثيرة على أن قضاء الهاتف أو توظيفه لأغراض غير إحقاق العدل ما تزال تسائلنا جميعا مسؤولين وسلط أساسا وهيئات مهنية وحقوقيين وإعلاميين وغيرهم، فمن يشرح للمواطنين كيف خرج خالد عليوة مع التهم الثقيلة التي تلاحقه من السجن ولماذا لم يعد، وكيف أصبح يتجول حرا طليقا بل ويحضر الأنشطة الحزبية وكان لا شيء حدث، أما الحديث عن الأحكام التي لا تنفذ والقضايا التي عمرت سنوات في المحاكم حتى كره أصحابها كلمة قضاء أو عدل، كما تابعنا ونتابع كيف تتم متابعة العديد من المناضلين والحقوقيين بمقالات ظاهرها القانون وباطنها الانتقام من موقف قريب أو بعيد.

لو قدر للمرء الاطلاع على التجربة الأمريكية في العدالة وبعيدا عن استقلالية القاضي الفدرالي وتعينه من طرف الرئيس مدى الحياة مع تصويت الغرفتين أو القاضي العادي وعن انتخابهم من طرف ممثلي الشعب بشكل يضمن الاستقلالية المادية والتقريرية، فإن هيئة القضاء والقاعات الصغيرة أحيانا التي يتخذ فيها القرار لتجعلنا أمام مشهد لا نملك معه غير الأسف على واقع كان ممكنا أن يكون نصرا يجمعنا بين دول الإسلام ودولة العدل. وهي إشارة مقارنة على أهمية النزاهة التي لن تعكسها الفضاءات الشاسعة والفخمة على أهميتها ما دام الضمير غائبا ومادام مخرب العمران ينخر عدالتنا.

لقد كانت إشارة ذكية في الخطاب الملكي الذي أعلن إطلاق دينامية إصلاح العدالة بالقول “ومهما تكن أهمية هذا الإصلاح، وما عبأنا له من نصوص تنظيمية، وآليات فعالة، فسيظل “الضمير المسؤول” للفاعلين فيه، هو المحك الحقيقي لإصلاحه، بل وقوام نجاح هذا القطاع برمته”.