منوعات

هل تكون “التجديد” آخر شهداء سوق الإعلام؟

هذا أصعب وأثقل عدد من أعداد “التجديد” أنجزه طاقمها في كل تاريخها، ولو كان من الأخلاق أن نمضي دون إصداره لما سطرنا فيه حرفا واحدا، لكن الالتزام مع قراء التجديد ومتابعيها والمهتمين بها كبلنا، وحده ذلك الالتزام أرغمنا على تجرع مرارة تسويد صفحات هذا العدد.

لا أحد من العاملين في مؤسسة “التجديد” لديه الحد الأدنى من القدرة على تحمل أعباء إصدار هذا العدد، ليس لأن أجور شهر فبراير تعثرت ولم يتوصلوا بها بعد كاملة ونحن على مشارف نهاية شهر مارس، بل لأن هذا العدد هو بمثابة عبارات التشهد الأخير ل”التجديد” قبل الغرغرة وهي على فراش الموت.

يعلم جميع المشتغلين في التجديد أنها تعيش أوضاعا مالية خانقة، ومرت عليهم شهور تأخرت فيها الأجور عن المعتاد. وبلغ تعثر تلك الأجور أوجه القاسي خلال شهر مارس، وعاشوا ضائقة مالية خانقة، ومع ذلك كان يحدوهم الأمل في أن تجتاز المؤسسة تلك المحطة الصعبة وتعبر إلى شاطئ “الأمان” بسلام. وجاء قرار الهيئة الناشرة، حركة التوحيد والإصلاح، بوقف إصدار التجديد وموقع جديد بريس، ليضع الجميع أمام حقيقة مرة، حقيقة تقول لهم: هذا هو العدد الأخير من “التجديد”، وهذا آخر عهدكم بتلك المدرسة الإعلامية العريقة، فقد آن أوان إغلاق أبوابها.

كانت “التجديد” تعيش في حالة حصار كبير، حصار حرمها حصتها من مشتريات الجرائد في الإدارات العمومية و الجماعات المحلية والمؤسسات العمومية (المطارات مثلا). وتلك الحصة تعد بآلاف النسخ في كل عدد. وحرمها من موارد الإشهار، حيث تعد من ضحايا التحكم في توجيه موارده، وخاصة إشهارات مؤسسات عمومية وشبه عمومية، وإعلانات معلنين كبار، وفقدت في نفس التوقيت إشهارات ثلاثة معلنين كبار بدون سبب واضح، لكنه مفهوم كرسالة سياسية فرضتها ظرفية “البلوكاج” السياسي الذي شهده تشكيل الحكومة.

ولم يتوقف الحصار في حدود ضبط انتشار “التجديد” ومواردها الإشهارية، بل تجاوزه ليشمل الحصار على مستوى الحصول على المعلومة التي تعطى بسخاء لغيرها من المنابر الإعلامية، فهي في أعين شريحة واسعة من المسؤولين والسياسيين، ومنهم المقربون منها، خط أحمر ومنبر لا ينبغي أن تصله تلك المعلومة، وحتى حين يكون لنا السبق في طلب معلومات خاصة، لا نمكن منها إلا مع تعميمها على الجميع.

وإضافة إلى كل تلك الأنواع من الحصار، عانت التجديد من حصار من نوع أكثر إيلاما، حصار ناتج عن عزوف شريحة واسعة من أبناء المشروع، الذي تعتبر لسانه الإعلامي، عنها وانفضاضهم من حولها، رغم التحول إلى الإصدار الأسبوعي وما استتبع ذلك من حرص أكثر على الجودة والعمق، لا لشيء إلا لأنهم يقيسونها على الإعلام الخاص الذي لا تحكمه الاعتبارات التي يفرضها خط التحرير على “التجديد” والذي يتماشى وتوجهات الهيئة الناشرة التي تصدرها.

وما سبق لا يعني أبدا استبعاد العوامل الذاتية في ما آلت إليه أوضاع التجديد المالية، غير أن ما ذكرناه كان هو المحدد الحاسم في وقف إصدارها. لذلك نعتبر منبر “التجديد” شهيدا آخر في ساحة الإعلام المغربية، اغتالته رصاصة التحكم الاقتصادي. ليضاف إلى كوكبة “شهداء” سابقين، وكل أملنا أن ينتهي عهد قتل الصحافة برصاص الإشهار الموجه.

والخلاصة أن “التجديد” توقفت عن الصدور بعد تجربة غنية تفوق ربع قرن، أسلمت الروح تحت وطأة آلة طحن لا ترحم. أسلمت الروح واقفة في الساحة الإعلامية وهي تقاوم وتناضل بشرف جم. وغادرت عالم الصحافة وفي رصيدها قدر عظيم من المصداقية والمهنية والوطنية. غادرت بعدما شكلت أسرة حقيقية تجمع بين أعضائها وشائج الإنسانية والأخوة والتعاون والاحترام. أغلقت أبوابها بعد أن كانت مدرسة إعلامية خرجت العشرات من الصحافيين ودربت المئات منهم.

غادرت عالم التدافع القيمي والهوياتي وهي تناصر الفكرة الإسلامية، وتناصر القيم المغربية الأصيلة، غادرت عالم التثقيف والتربية وهي تناصر فكر الوسطية والاعتدال، وتنبذ التطرف وتحارب الإرهاب، غادرت عالم التعبيرعن الاختيارات الدعوية المعتدلة وهي تحمل مشروع الهيئة الناشرة لها بصفتها جمعية دعوية وتربوية، غادرت عالم الصراع السياسي وهي تناصر مشاريع محاربة الفساد والاستبداد، ومشاريع الديمقراطية الحقة، ومشاريع حماية حقوق الإنسان وكرامته. غادرت بشرف، بعد أن عاشت في عزة وكرامة.