وجهة نظر

كلفة الديمقراطية…الوصاية على الشعب

في كتابه “الديمقراطية ونقادها” يعدد عميد علماء السياسة الأمريكيين الراحل “روبرت دال” صنفين من الناس كأعداء للديمقراطية، الصنف الأول هم الفوضويون، والصنف الثاني هم الأوصياء.

فالحكم عن طريق الأوصياء بحسب “روبرت دال” يعتبر البديل الدائم للديمقراطية، ذلك أن نظرية الوصاية ترفض النظرية القائلة بأن الناس العاديين يمكن الاعتماد عليهم في فهمهم لمصلحتهم والدفاع عنها –ناهيك عن مصلحة مجتمع كبير جدا-، فهذه النظرية بحسب الأوصياء ما هي إلا ضربا من الأوهام، فالناس العاديين ليسوا مؤهلين لحكم ذاتهم؛ فقلة فقط من الناس هي القادرة والمؤهلة لممارسة الحكم بسبب ما تتمتع به من تفوق في الفضيلة والمعرفة.

وقد أبانت مرحلة تعثر تشكيل الحكومة بالمغرب خلال الأشهر السابقة عن استبطان “عقل الدولة” لتلك النظرية في تعامله مع الشعب المغربي، باعتباره غير مؤهل بعد للديمقراطية، وأنه لا يمكن ترك الحرية الكاملة للشعب في اختيار من يدير شؤونه، وحتى حين يختار الشعب تيارا سياسيا معينا من خلال الهامش المفتوح له، فلا بد من التدخل لوضع حد لهذا الاختيار، وكأن الشعب المغربي لا يزال قاصرا عن فهم مصلحته وتحمل تبعات اختياره.

وحين يتم الحديث عن ضرورة العودة للشعب –صاحب السيادة بنص الدستور- من خلال انتخابات مبكرة، كنتيجة طبيعية لفشل المشاورات الحكومية، يتم التذرع بالتكلفة المالية والسياسية لهذا الخيار، وكأننا سنكون استثناء بين دول العالم التي تحترم شعوبها، وترجع إليها عند كل أزمة سياسية للفصل بين فرقاء السياسية، ولا تتذرع بالتكلفة المالية والسياسية لرفض خيار العودة للشعب، والتعامل مع الشعب كالقاصر و المحجور عليه.

وقد لاحظنا كيف انصاع الساسة البريطانيون لرغبة الشعب الانجليزي بعد التصويت على الخروج من الاتحاد الأوروبي، بالرغم من الفارق الضئيل بين المؤيدين والمعارضين للخروج من الاتحاد الأوروبي، وبالرغم من الخسائر المالية الكبيرة التي تكبتها بريطانيا والعالم بأسره بعد قرار الخروج (تقدر الخسائر التي تكبدها الاقتصاد العالمي ب2 تريليون دولار)، بل إن التصويت بنعم دفع “الاسكتلنديين” للمطالبة باستفتاء جديد للانفصال عن المملكة المتحدة؛ وبالرغم من حالة “الندم” التي عبر عنها الكثير من البريطانيين بعد تصويتهم بنعم، لم نسمع سياسيا بريطانيا يتهم البريطانيين بالجهل بمصلحتهم، بل صرح رئيس الوزراء “كاميرون” الذي استقال مباشرة بعد نتائج الاستفتاء بأن “البريطانيين قالوا كلمتهم ويجب أن نكون فخورين بديمقراطيتنا البرلمانية، وإرادة البريطانيين يجب أن تحترم ولا شك في النتائج المعلنة”.

كما نرى مجموعة من الدول لم تتأثر مكانتها وصورتها في الخارج لمجرد انتخابات مبكرة “تركيا مثلا” -بعد فشل العدالة والتنمية في تشكيله الحكومة سنة 2015-، بل زادت مكانتها وزادت قوة حكوماتها بعد الانتخابات، بل إن الانتخابات المبكرة أصبحت هي الحالة “العادية” في مجموعة من الدول ومن بينها دول تحتل مكانة متقدمة على المستوى الدولي “إيطاليا مثلا”، وحتى “اليونان” التي تعرف أزمة اقتصادية غير مسبوقة اتجهت لانتخابات مبكرة بسبب خلافات حزبية حول خطط التقشف الحكومية، ولم يمنعها من ذلك دعاوى الحفاظ على “استقرار الوطن” والتكلفة المالية لإجراء تلك الانتخابات؛ بل إن دولة “صهيون” التي تعيش حالة حرب دائمة منذ الأربعينات تتجه أحزابها للانتخابات المبكرة كلما حدث خلاف بينها، ولا يتذرع قادتها بالظروف الداخلية والخارجية وحجة “عدم الاستقرار” لرفض الرجوع للشعب صاحب التفويض.

وقد شاهدنا قبل أيام كيف جرى اعتقال رئيسة كوريا الجنوبية رفقة مدير شركة “سامسونغ” التي تساهم عوائدها بخمس الانتاج المحلي لكوريا الجنوبية، ولم يتذرع المسؤولون الكوريون بحالة الاستعداد الدائم للحرب مع جارتها الشمالية منذ أزيد من 60 سنة، وبالتكلفة الاقتصادية جراء اعتقال مدير شركة تشغل أزيد من 400 ألف عامل، لقمع المسيرات المطالبة بإقالة الرئيسة ومحاكمتها.

فالانتخابات المبكرة وإن كانت لها تكلفة مالية، فهي ستساهم في التأكيد على “صوابية” الخيار الذي انتهجه المغرب في التعامل مع الربيع الديمقراطي، أي الطريق الثالث أو “الإصلاح في ظل الاستقرار” بتعبير حزب العدالة والتنمية، كما ستساهم في التنزيل الديمقراطي للدستور، وفي التدليل على استقلالية المؤسسات الدستورية والهيئات الحزبية، وعلى خلاف الطرح الذي يعتقد بأنها –أي الانتخابات المبكرة- سترسم صورة في الخارج لبلد غير مستقر سياسيا، فإنها على العكس من ذلك ستساهم في تعزيز مكانة البلاد في نظر الخارج المترقب والمتابع بشكل كبير للتجربة المغربية في التعامل مع الربيع الديمقراطي، حيث سيلاحظ هذا الخارج أن “الانتخابات الحرة والنزيهة هي أساس مشروعية التمثيل الديمقراطي” (كما جاء في الفصل 11 من الدستور)، وأن الفيصل والحكم بين الأحزاب لم يعد وساطة وتدخل جهات معينة، بل أصبح هو الخيار الديمقراطي.

ويبقى السؤال المطروح: متى يصير الشعب مؤهلا لكي يختار من يدير شؤون نفسه، ويتحمل تبعات اختياره؟ أليست النخبة التي منعت المغاربة من اختيار من يدير شؤونهم منذ الاستقلال هي التي تمارس الوصاية عليه الآن ودائما بنفس الحجج والتبريرات؟ وماذا قدمت النخبة التكنوقراطية والمفروضة على الشعب للمغاربة منذ الاستقلال من تنمية ورخاء، ألم يعلن الملك الراحل سنة 1996 عن دخول المغرب لمرحلة السكتة القلبية؟ ألم يكن المغرب سنة 2011 جزءا من حركية شعوب دول الربيع الديمقراطي؟ ألم تخرج المسيرات مطالبة بالحرية والكرامة العدالة الاجتماعية؟ ألم يفشل خيار الرهان على حزب للدولة؟
فالمغاربة منذ الاستقلال وهم في غرفة الانتظار على أمل أن يصبحوا يوما راشدين مسؤولين عن اختياراتهم؛ في حين أن دولا قريبة وبعيدة كانت أكثر تخلفا وفسادا واستبدادا من المغرب نراها اليوم تتقدم على المغرب في سلم نادي الديمقراطيات العالمية، في مقابل استقرار المغرب ضمن خانة “الدولة الهجينة”.

صحيح أن للديمقراطية تكلفة مالية وسياسية، لكنها تكلفة تهون أمام تكلفة إحساس شعب باليأس والإحباط وفقدان الأمل في المستقبل، وإحساسه بالغبن والغضب من عدم احترام رأيه واختياراته في من يدير شؤونه.

ونختم بقولة بليغة للفيلسوف ورئيس البوسنة والهرسك سابقا “علي عزت بيجوفيتش” في كتابه الإسلام بين الشرق والغرب “إن أي تلاعب بالناس حتى ولو كان في مصلحتهم هو أمر لاإنساني، أن تفكر بالنيابة عنهم وأن تحررهم من مسؤولياتهم والتزاماتهم هو أيضا لا إنساني”.