منتدى العمق

أنا والشباب في حديث طريف

لقد أثارني كثيرا حديث طريف دار بيني وبين مجموعة من الشباب حول ثورة التكنولوجيا الحديثة واحتلالها مساحات كبيرة من حياتهم. قبل الغوص في بحيرات هذا الحديث، لا بد من الإشارة إلى أن فتح قناة التواصل والحوار مع الشباب صارت من الضروريات التي قرضتها مفاصل الواقع الذي نعيشه. ذلك لأن فقدان الاتصال بهذه الفئة من المجتمع يؤدي إلى كارثة حضارية حقيقية، من نتائجها الوخيمة – على سبيل الإشارة فقط – الفشل في تمرير فكرة مشروع النهوض الحضاري إلى الأجيال الشابة (والتي يناط بها تسخير كل قواها العقلية والوجدانية والنفسية والحركية من أجلها). أيضا لا بد من إعطاء المسألة قيمتها الحقيقية خصوصا وأن الشباب صاروا أميل إلى العزلة والانزواء على الذات منهم إلى المحافظة على روابط الاتصال. ولعل أقوى سبب في هذا هو التشبع بفكرة “الانشغال بالمنتوج السحري إلى أبعد الحدود”. على كل حال، فمسألة الحوار بين الأجيال لا بدأن تعاد صياغتها من جديد على قواعد متينة وحازمة بأبعادها الحضارية المتعددة. (…)

بعض مفردات ذلك الحديث كانت مدى براعة العقل البشري الذي أنتج هذه الأشياء، وانبهارهم حيال ذلك. ربما كانت هذه النقطة بالذات من أقوى الدوافع التي ينبغي – كما في وجدان الشباب اليوم – أن تجعلنا كعالم ثالث ( وربما رابع أو خامس) نكن للغرب تقديرا من نوع خاص. هذا التقدير قد يصل عند البعض إلى درجة عقيدة راسخة أنه لا يمكن لعقل بشري آخر إخراج ما أخرجه العقل الغربي من منتجات. على هذا المسار لا يملك كثير من هؤلاء الشباب إلا التسليم لفوكوياما بنهاية العالم على الصورة التي رسمها للإنسان. أهمية منطق كهذا ينبغي أن تجعلنا لا نمر عليه دون تفكيك وتحليل؛ وبالتالي إعطائه القيمة المناسبة له.

من المفردات المفصلية الأخرى كذلك التي كان لها شأن كبير في مجريات الحديث هو إجماع هؤلاء الشباب على أن الحياة بدون الهاتف الجوال لا يمكن أن تستقيم: “لقد صار جزءا مهما من حياتي” ، “لا أستطيع قضاء شطر يوم واحد من حياتي بدونه” ، “كثير من مفاصل حياتي مرتبطة به مباشرة” ، “أعجب لمن يستطيع تدبير حياته اليومية بمعزل عنه” ، “لو لم يكن هناك هاتف نقال لكانت حياتي غير التي أعيش الآن بالتأكيد” ، ” … “.

مقولات تكررت في أثناء حديثنا عدة مرات مما يؤشر على أن المسألة تحتل نفس المساحة عند الجميع. كما أنها ؛ استنادا إلى قواعد العلوم الإنسانية – على الرغم من الانتقادات الموجهة إليها ، ومدى قدرتها على رصد وتحليل ومعالجة الظواهر الاجتماعية بشكل يقارب العلوم التقنية – يصح أن تعتمد كقاعدة بيانات (على الأقل)لا ينبغي إهمالها وتجاهل الآثار التي يغلب على الظن أنها ستكون كارثية لا قدر الله. في هذا الصدد تؤكد دراسات عدة قام بها مجموعة من الباحثين الاجتماعيين أن استعمال الهاتف النقال يؤثر سلبا على الجانب النفسي والاجتماعي والثقافي لمستخدمه. ولقد أجادت سوزان كرينفيلد الدكتورة البريطانية في علم الأعصاب في عرض نتائج تلك الأبحاث والدراسات في كتابها الحديث: “تغير العقل” والصادر ضمن سلسلة “عالم المعرفة” في عددها 445 لفبراير 2017 ، فليراجع لأنه يحوي أرقاما ومعطيات تجعل الفرد يعيد النظر في كثير من السلوكيات اليومية لأبنائه وأقاربه الدين يدخلون ضمن مسؤولياته التربوية والأسرية الحتمية. ( ولقد قمت بتغييرات كثيرة في هذا الصدد مع أبنائي وبعض أقاربي وأصدقائي بمجرد قراءتي للكتاب.)

الأمر الآخر الذي تمت مناقشته بإلحاح هو ذلك الفضل الكبير الذي به عرفت البشرية تغيرا جذريا؛ تلك الطفرة النوعية التي اصطبغت بها دورة الحياة العامة . لا أحد يمكنه إنكار هذا. فالعالم صار قرية صغيرة ، والمعرفة عرفت ثورة حقيقية، والتواصل صار عنوانا، والأضواء المحمولة في الأيادي والجيوب والحقائب باتت تضيء الأماكن والطرقات والبيوتات والشوارع ؛ وتكسرت أعمدة الزمن الذي طالما كان يقف شامخا وعزيزا يضرب له ألف حساب في مفاصل الحياة اليومية. أذكر أننا كنا قبل كتابة رسالة إلى أحد الأقارب نحسب الأيام والساعات التي كان يقضيها قبل الوصول إلى المرسل إليه؛ أما إذا كان الأمر مستعجلا ، فبرقية مستعجلة تصل في غضون الأربع وعشرين ساعة مقابل ثمن أعلى من المراسلة العادية. الزمن كانت له قيمة نفسية واجتماعية ومادية . أما الآن، فلم تعد له قيمة بفعل آفة التضخم؛ تماما كما يصاب الإنسان بالتخمة من جراء الإفراط في الأكل، فلا يكترث للطعام: لا لذكره، ولا للحاجة إليه ، ولا لأهميته أصلا. صار اعتبار مالك بن نبي للوقت ( ضمن ثلاثيته المشهورة )عاملا أصليا في عملية التطور خرافة. لأننا “أصبحنا متطورين بفضل امتلاكنا لأحدث الإصدارات التكنولوجية” هذه الآلات العجيبة التي وضعت “قيمة الوقت” في سلة المهملات عند الشباب.

تقدمنا قليلا في الحديث عن مناقب التكنولوجيا الحديثة وفضائلها الكثيرة، ولاحظت أن معظمهم يؤكدون على ” ربح الوقت ” كمبرر قوي على ضرورة تسليم رقابنا لها – الهواتف النقالة – فقد صار التواصل يتم في غضون ثوان معدودةعوضا عن الأيام والساعات ، وعملية البحث في دقائق عوضا عن الأسابيع والأيام التي كانت تهدر بيد دفات المصنفات والقراطيس … وبعد موافقتهم الرأي في كل ما ذكروه من إيجابيات، خرجت عليهم بسؤال واحد:
ماذا صنعتم بالوقت الذي وفرتموه بفضل استعمالكم التكنولوجيا الحديثة؟
أخي القارئ، لو كنت حاضرا معنا لرأيت كيف عم الصمت الرهيب حلقة النقاش لفترة طويلة؛ حالة يصعب علي وصفها بالدقة المطلوبة، لذلك منعت نفسي من المحاولة. ومع ذلك لا يسعني في آخر هذه السطور إلا تكرار السؤال:
ماذا صنعتم بالوقت الذي وفرتموه بفضل استعمالكم التكنولوجيا الحديثة؟

تعليقات الزوار

  • أحمد القدوسي
    منذ 7 سنوات

    السلام عليكم أخي الفاضل.أشكرك كثيرا على الاهتمام وعلى نشر المقال.أرجوأن يكون مفيداعلى قدر اهتمامكم به.