وجهة نظر

حراك الريف وخطيئة الأغلبية الحكومية

مع تشكل الحكومة الجديدة، وظهور الاصطفاف بملامحه السياسية والحزبية الواضحة، تكون خارطة الولاءات الحزبية والسياسية قد بانت بوضوح، كما تكون المواقف المعبر عنها قبل انتخابات 7 أكتوبر، وخلال مرحلة “البلوكاج الحكومي” التي دامت لأزيد من ستة أشهر، قد انفضحت، خصوصا و أن زمام الأمر الحزبي قد بدأ ينكشف عن خباياه الكزة، بعد أن بدأت المقاومات المُمانِعة الداخلية تَنْضَح على سطح الأحزاب، وبدأت تتجاوز الحوارات الداخلية السرية إلى مواقع التواصل الاجتماعي، والجرائد الورقية والإليكترونية، وأصبح الغسيل النتئ يُنشَر على الملإ، مما أفقد أغلب الأحزاب الوطنية داخلها الحزبي، وسرها التنظيمي والمواقفي، وبدأت المقاومات الداخلية، من شباب التنظيمات الحزبية، تُرخي بظلالها اللافحة على مفاوضات الرؤوس الحزبية، وعلاقاتها داخل الأغلبية. وأصبحنا نسمع عن انتقادات غير مسبوقة لشيوخ الأحزاب، وقادتها “الأشاوس”، من قبل شباب الفيس بوك، خصوصا من أحزاب قبلت أن تلعب لعبة “فك البلوكاج” في زمن قياسي بعد أن كانت تتأبَّى عليه يوم كانت التعليمات ترد عليها ، وكان المسار السياسي يُلزمها بلعق أصابعها بعد كل عملية ولوغ في لحم خصومها.

لقد تعرت الأحزاب العتيدة، وصارت مكشوفة الداخل بين يدي جمهور المتتبعين، وعامة الملاحظين، فما عاد لأحد أن يبدل كبير جهد في الكشف عن الدواخل “السيادية” لأغلب الأحزاب، خصوصا تلك التي ظلت تفتخر، على الملإ، بتماسك بنيانها، وقوة تلاحم مكوناتها، وتَرَفُّعِها عن الأشخاص، والشيوخ، والزعماء، والقادة،… ولا تنفك ترُدُّ على خصومها بأنها أحزاب المؤسسات لا الأشخاص؛ حتى تحولت إلى مُزَقٍ من الآراء، والمواقف، والاصطفافات؛ بين من يُشرِّق ومن يُغرِّب، وبين من يقول: نعم ومن يقول: لا.
فالزعماء يُجارون التعليمات، والمصالح العليا، للأشخاص طبعا لا للوطن، والقواعد الشابة تُجاري نبض الشارع، وتتوسل لانتظاراتِهِ زعماءَها “الأشاوس”. فلا هؤلاء يستجيبون وقد تربَّعوا على أرائك السلطة، وقبلوا بشروط اللعبة، ولا الشباب ينحني للأوامر، ويقبل بالمهزلة. وبين هذا وذاك؛ تراشق، ومُمانَعة، وتهديد بالعصيان.

لقد شكلت أحداث الريف أولى الاختبارات الحقيقية التي أسقطت في يد أحزاب الأغلبية، حيث ظهر الصراع الخفي بين القاعدة والقمة، والذي ظلت تخفيه التصريحات المُهدِّئة منذ تشكلت الحكومة الحالية، خصوصا داخل حزبَيِ العدالة والتنمية والاتحاد الاشتراكي، إلى السطح بشكله المخيف، والمنبئ عن احتمال حدوث تمزقات في الصف الحزبي، بعدما انبرت الأصوات الشبابية، داخل الحزبين، تهاجم بالواضح، الصارح، الفاضح، زعامات الحزبيْن، وتُحَمِّلهما المسؤولية التاريخية، والوطنية فيما ستؤول إليه الأوضاع في المنطقة جراء التصريحات المستفزة وغير المسؤولة، للأغلبية المغلوبة، والتي قد تؤدي إلى إشعال فتيل الاحتجاج، في الوقت الذي كانت أمام خيار التهدئة وفتح الحوار، كأحد الخيارات الوطنية والاستراتيجية التي تعاقدت عليها الأحزاب مع المواطنين، بدل تحولها إلى دركي في وجه الاحتجاجات الشعبية، السلمية والمسؤولة. ويبقى، بعد ذلك، تحكيم القانون الذي ” لا يسمح- حسب بلاغ الأغلبية- بتحول التجمعات إلى أعمال تمس بأمن المواطنين أو تؤدي إلى تخريب أو إحراق الممتلكات العامة والخاصة”، أو للاستغلال الانفصالي، أو للدعوة للخيانة، أو لتهديد الأمن العام، مسؤولية الدولة التي لا ينازع فيها مواطن حريص على أمن البلد ووحدته واستقراره.

فبدل أن تجنح هذه الأحزاب، أو بالأحرى قادة هذه الأحزاب، إلى منطق تغليب لغة الحوار، والدعوة إليه، واقتحام عقبة الاحتجاجات الشعبية بهاجس تنموي نهضوي ينتشل المنطقة من وهدة التردي الاجتماعي، والبؤس التنموي، وهي وظيفتها الشعبية التي تعاقدت عليها مع عموم الناخبين والناخبات؛ اختارت أن تلجأ، في تصريحاتها، إلى التشكيك في خلفيات هذا الحراك، وتغليب الهاجس الأمني، لتقدم، بذلك، هدية لأعداء الوحدة الترابية، واستقرار البلد، من قبيلة الانفصاليين، بتوجيهها التهم، إلى عموم الحراك، مما قد يؤدي إلى تأليب الوضع، واستغلال دعاة الفتنة، وهم القلة القليلة، لهذا الموقف الرسمي المعادي، لكسب المشروعية الجماهيرية، لشحذ الجماهير من أجل إشعال فتيل الاحتجاج، والتعبئة حوله، والنزوح به إلى “الكاو”. وهو ما لا يرضاه أي مواطن ريفي أصيل يحب بلده، ويحرص على استقراره ووحدته.

إنها أولى الخطايا السياسية والاستراتيجية الكبرى التي تقترفها هذه الحكومة، ممثلة في أغلبيتها، والتي تجعل كل متتبع نبيه يخلص إلى أن هذه الأغلبية، بهذه الضحالة والهجانة واللانسجام، متى ظلت تدبر للأمة أزماتها الاستراتيجية بهذه العقلية المتعالية بالسلطة، المنسحبة منْ هَمِّ الانتظار اليومي للشعب المغربي، مع إقحام تنظيماتها الحزبية في القضايا المصيرية للوطن؛ ستجر البلد إلى المجهول، كما ستحول تنظيماتها المتداعية إلى كنتونات ومزق من شظايا الأحزاب التي لا يجمع بينها جامع، ولا يوحد كلمتها موحد.

إنها – لا قدر الله!- البوادر الأولى التي تنبئ بنهاية السياسة، وانمحاء التنظيم الحزبي العتيد، وسقوط يافطة التعددية، والانتقال الديمقراطي،… وفسح المجال لشرعنة الاستبداد، واستدعاء التحكم العميق.
دمتم على وطن.. !!.