منتدى العمق

همسة في أذن اليسار

تعتبر الحركات الاحتجاجية شكل من أشكال الفعل الجمعي الذي يهدف إلى تحقيق تحولات في بعض جوانب النظام القائم في مجتمع من المجتمعات. والدراسة الاجتماعية للحركات الاجتماعية تدين بالكثير في ريادتها إلى ماكس فيبر. فقد أكد هذا الأخير أهمية أوجه التعارض بين الأنماط المستقرة والمنضبطة من التنظيم البيروقراطي، والطابع غير الثابت والأكثر سيولة للحركات الجماهيرية، والتي تتطور إلى تحد النظام القائم. وتمثل “الحركات الاجتماعية في رأيه تأثيرات دينامية يمكن أن تؤدي باستمرار إلى تفكيك أو تهديد الأنماط المستقرة من السلوك، ومن ثم تتحول إلى مصدر سريع للتغير”[1].

كمايعد العمل الجماعي من أهم شروط نجاح الفعل الاحتجاجي الهادف إلى التغيير، وهو الطابع الذي ميز كل المعارك النضالية في الآونة الأخيرة بالمجتمع المغربي، سواءكانت تلك المعارك محلية أو وطنية.إذ تحررت من التسقيف السياسي، و السياج الإيديولوجي. لأن “محاصرة الفرد في قمقم إيديولوجي معين، وتقليم قدراته التجديدية والإبداعية وخنق روح المبادرة فيه، لن يؤدي إلا إلى تكرار الواقع واجترار الماضي، دون أن يستطيع التاريخ أن يخطو قيد أنملة[2]. هذا ما جعل قطار التغيير والتنمية في الدول العربية مستقرا في مكانه لم يتحرك، وفوتت الخلافات والصراعات بين الأحزاب والجماعات على هذه المجتمعات فرصة الانطلاق. لكن الأحداث التي عرفتها بعضالدول العربية سنة 2011 بعثت فينا أملا جديدا، بعدما اجتمعت كل التيارات السياسية والإيديولوجية، جنبا إلى جنب في ساحات الحرية، بتونس ومصر واليمن، مرورا بباقي الدول.كما التحقت النقابات والإطارات الجمعوية ورجال الدين (من كل الطوائف الدينية)، رافعة شعار الحرية، والكرامة والعدالة الاجتماعية.إلا ان تلك الوحدة لم تستمر طويلا حتى ظهرت الخلافات السياسية وتصفية الحسابات الإيديولوجية إلى السطح، مما أجهض أغلب التجارب في تلك المجتمعات باستثناء التجربة التونسية التي تميزت بتقارب بين الإسلاميين والعلمانيين مما جنب البلد السيناريو المصري، وقد كان للغرب دور مكشوف في التغاضي عن الانقلاب العسكري في مصر، لأنه ” ليس هناك ما هو أنجع من دكتاتورية عسكرية لجعل بلد ينزف حتى آخر قطرة”[3].كما عرف المغرب كذلك خلافات حادة بين بعض مكونات حركة 20 فبراير، خاصة بين بعض اليسار والإسلاميين، وكان من بين الأسباب التي خندقت الحراك ودفته إلى نفق مسدود، مما جعل السلطة تستثمر ذلك التناقض بين الأطراف الداعمة للحركة في الالتفاف على المطالب وامتصاص غضب الشارع؛ عبر تقديم تنازلات مرحلية وتعديل الدستور والدعوة إلى انتخابات مبكرة.بالمقابل فالحراك الذي عرفه الريف مختلف تماما عن تجربة حركة 20 فبراير التي عرفت مشاركة تنظيمات سياسية ونقابية وجمعوية كانت توجه الحراك وتتحكم في مساره عبر توافقات سياسية بين الأطراف الداعمة. لقد جاءت المبادرة هذه المرة من شباب غاضب منتفض ضد الحكرة والإقصاء خصوص بعد طحن بائع السمك محسن فكري في حاوية الأزبال.إن هذا الشباب لم يلج غمار السياسة في يوم من الأيام بمفهومها التقليدي(الانخراط في الاحزاب السياسية).”فالسياسة ما عادت تعني أن ننتخب أو ننتمي إلى حزب، بل أن يخترع كل واحد منا المستقبل”[4]، ويساهم في دفع عجلة التنمية والتغيير، كما لم يتلقَّ تكوينا في العلوم السياسية. لكن الذي دفعه للخروج والاحتجاج، هو واقع البطالة والتهميش الذي يعيشه المجتمع بشكل يومي، لأن الواقع أفصح شاهد وخير دليل.

لقد أصبح هذا الحراك،المثال الأكثر وضوحا ونجاحا من حيث نكران الذات الفردية في الفعل الجماعي، الذي يسعى إلى تحقيق الكرامة والعدالة الاجتماعية.وشكل هذا التضامن والتعاضد بين مكوناته الاجتماعيةوالسياسية والإيديولوجيةخيطاناظما وملهما للحراك، ومساهما في توسعه والتفاف مختلف الفئات الاجتماعية حوله.إن الشباب الذي قاد حراك الريف،أبان عن وعي ونضج ويقظة أكبر من بعض المكونات السياسية التي سارعت إلى تشكيل حلف يساري، للدفاع عن حراك الريف من لون إيديولوجي واحد. ما يستدعي التساؤل عن مبررات هذا الإقصاء؟ ولماذا في هذا التوقيت بالذات؟ وفي مصلحة من هذا الاصطفاف الأحادي؟. نتمنى أن لا تكون هذه الخطوة إقبارا لهذه التجربة الفتية، كما وقع في فرنسا مع الاحتجاجات الطلابية سنة 1968، حيث “ثم خنق هذه التجربة الجديدة (الحركات الاجتماعية الجديدة)، خصوصا في الجامعات، تحت وطأة هدر ماركسي ثوري يفضل الكلمة الميتة على العمل الحي”[5].

إن الإقصاء والاصطفاف الإيديولوجي من أهم عقبات التغيير في المجتمعاتالإنسانية. فهذا صاحبنا، روجي جارودي، يوجه انتقادا لاذعا لليسار الفرنسي،وكان زعيما في الحزب الشيوعي آنذاك. إذ يعتبر التقسيم الكلاسيكي إلى فئتين، يمين ويسار أمر تجاوزه التاريخ، داعيا إلى تكتل يجمع كل الفاعلين، والقوى التي ترغب في التغيير، مشكلة بذلك كثلة تاريخية وموحدة، وهي نفس الكتلة التي دعا إليها رفيقه، أنطونيو غرامشي، في إيطاليا، وذهب إليها الراحل محمد عابد الجابري أيضا، بعد فشل تجربة التناوب. “إن وحدة الكتلة التاريخية الجديدة، تتخطى وتتجاوز الانشقاقات الحزبية القديمة. ولقد كان موريس توريز قد أكد منذ زمن بعيد أن مفاهيم (اليمين) و (اليسار) القديمة قد باتت بالية. والمواجهة إنما تقوم اليوم بين أولئك الذين يحاولون أن يدخلوا إلى المستقبل قهقرة، وبين أولئك الذين يعون الحركة الواقعية ويجهدون للسيطرة عليها”[6].والمعركة اليوم في المجتمعات العربية ليست بين يسار ويمين، وإنما المعركة مع الفساد والاستبداد بكل أشكاله، سواء اكتسى بلباس سياسي، اقتصادي أو ديني.

إن إدراج كل الفاعلين ومن بينهم الفاعل الديني ضمن الكتلة التاريخية من قبل غرامشي وجارودي ممثلا في الكنيسة، راجع إلى أهميته في ترجيح كفة موازين القوة لصالح قوى التغيير، و”يكفي التذكير بأن ‘رجال الدين’ في شيلي وفي كوريا، على سبيل المثال، قد حاربوا الديكتاتورية عن عقيدة وعن شجاعة تفوق الكثير من المفكرين الأحرار”[7]. ويمثل توماس مونذر[8] اللاهوتي الأول الذي قاد انتفاضة الفلاحين في القرن السادس عشر نموذجا لرجل الدين المنتفض على الظلم والاستبداد. كان يقول: “إن الإيمان في مبدئه الأول يهب لنا ان نصنع أشياء مستحيلة”[9]. إن الإيمان الذي  يدفع صاحبه للوقوف في وجه الاستبداد والتمرد عن القيود اللاإنسانية، التي تحط من كرامة الإنسان وآدميته. لا يمكن رفضه “لأن إيمانا كهذا الإيمان ليس أفيونا، بل خميرة لتحول العالم. وكل ضربة تسدد إلى مثل هذا الإيمان هي ضربة مسددة إلى الثورة”[10]. كما أن الرهان على خطاب متعال على الواقع لن يحدث أي تغيير ولن يلتف حوله الشعب، “ولا يمكن للماركسية ان تكون المحطمة الأصيلة للأغلال، إلا إذا كانت قادرة على أن تدمج بها هذه اللحظة الإلهية[11] من لحظات الإنسان”[12].كما انه “ليس في مستطاع أي تناقض (موضوعي) أن يفضي وحده إلى ثورة”وتغيير حقيقي. تغيير يشمل بنية النظام والمجتمع والإنسان، بل سيفشل كل تغيير إذا قام الإنسان بتغيير كل شيء ما عدا نفسه.في هذه الحالة نقوم بإجهاض أي تغيير مرتقب، وبالتالي إعادة إنتاج نمط حكم أكثر استبدادا.

لم يدرك اليسار المغربي بعد أن المرحلة تقتضي البحث عن المشترك، والمشترك الإنساني “هو اهتمام في نظرنا بالثقافة المناضلة التي تحدث عنها فيلسوف الشخصانية الإسلامية محمد عزيز الحبابي، رحمه الله، ودافع عنها في مواجهة الثقافة النرجسية والمتعالية، التي تصنع المسافات وتذكي الصراعات”[13].كما يفسح المجال للسلطة الاستبدادية أن تحكم قبضتها على المجتمع وتخنق أنفاسه، ولنا في بعض الدول العربية عبرة لمن يستوعب دروس التاريخ. لقد ساعد الإقصاء في تدبير المرحلة الانتقالية، وغياب التوافق وتغليب المصالح العامة عن المصلحة الخاصة، في عودة الاستبداد وبشكل اكثر تسلطا وبطشا  من السابق.

لاأمل يرجى ولا تغيير ينتظر ما لم تدرك جميع التيارات السياسية قيمة التوافق وضرورته، بل إن التوافق والعمل المشكل، قضية مصيرية للعبور بسفينة التغيير إلى بر الأمان، وبناء شروط الحرية ومحاصرة الفساد والاستبداد.”افتحوا أعينكم، ينبغي أن تكون ثاقبة حتى ترى الأفق. وتلتزم أيضا الأيادي لتقبض على طوق النجاة. علينا إدارة الظهر لليل، وألا ننتظر الظهيرة لنعتقد في وجود الشمس”[14] حتى لا تغرق السفينة بالجميع.

بقلم: طالب باحثسوسيولوجيا التنمية المحلية.

[1] أنتوني جيدنز: مقدمة نقدية في علم الاجتماع، مركز البحوث والدراسات الاجتماعية – كلية الآداب – جامعة القاهرة، الطبعة الثانية، 2006، ص 112.

[2] محمد سبيلا: للسياسة بالسياسة في التشريح السياسي، إفريقيا الشرق، ط 1، 2000. ص 96.

[3]روجي جارودي: كيف نصنع المستقبل، دار الشرق، ط 1، 1999، ص 34.

[4] روجي جارودي: البديل، ترجمة جورج طرابشي، منشورات دار الآداب، بيروت، ط 2، 1988، ص 8.

[5]آلان تورين: براديغم جديد لفهم عالم اليوم، ص 263.

[6]روجي جارودي: البديل، ترجمة جورج طرابيشي، منشورات دار الآداب، بيروت، ط 2، 1988، ص 192.

[7] الآن تورين: نقد الحداثة، ترجمة أنور مغيت، المجلس الأعلى للثقافة، ط 1،1998، ص 281.

[8] مصلح ديني تشيكي، كان من أتباع اللاهوتي الانجليزي ويكلف، أدين بالهرطقة وأحرق حيا.

[9] أورده جارودي في كتاب: البديل، ص 103.

[10] روجي جارودي: البديل، ص 104.

[11] يتحدث جارودي عن الذاتية الفاعلة، التي هي انبثاق للمتعالي، نجد مثالا عليها في صورة المسيح وهو يحطم الأصنام والأغلال ويعبر الحدود ويطيح بالمحرمات باسم حب يتخطى جميع الحدود التاريخية ويتعالى عليها.

[12] نفس المصدر السابق، ص 108.

[13]إدريس مقبول: ما وراء السياسة، إفريقيا الشرق، ط 1، 2016، ص 395.

[14] روجي جارودي: كيف نصنع المستقبل، دار الشرق، ط 1، 1999. ص 14.