وجهة نظر

التعليم قضية مجتمع ومستقبل أمة كلمة في وداع “ملكة الرياضيات”

كتبت الاسبوع الماضي كلمة بعنوان، “التعليم، مسيرة مشوار استثماري واعد في البشر وللبشر” ، مذيلا إياها بحوار مقتضب بمناسبة الذكرى الأربعين لتأسيس الاتحاد العالمي للمدارس العربية الإسلامية، مع رئيس الاتحاد، أستاذنا الكبير الدكتور أحمد فريد، حفظه الله.”

و ها أنا ذا أعود اليوم لموضوع التربية و التعليم، بمناسبة فضائح الامتحانات الأخيرة في البكالوريا بالجزائر في دورتها الأولى والثانية، أما عن امتحانات مسابقات دخول المعاهد والتخصصات فحدث عن البحر ولا حرج و منذ سنون ودار لقمان على خالها، ضف إلى ذلك المستوى المتدني للطلبة الذكور خاصة، إذ تجد الواحد منهم يحمل أعلى الشهادات ، ليسانس وماجستير و دكتوراه، لكن ربك كريم.. “صم بكم عمي فهم لا يفقهون”، او كما يقول المثل الجزائري “لا يفرق قوعو من بوعو “، و اليوم حتى نسب نجاح و أي نجاح للبنات يفوق أضعاف البنين لتصدق فينا مقولة “عائشة أحسن من عياش” كما كان يحذرنا منها مازحا و نحن شباب مدير ثانويتنا الشيخ بن تونسي رحمه الله.. و أذكر أيام زمان كنا ننعت الشهادات المصرية بالكارثية، اليوم تمر الجزائر بسياسة تجهيل ممنهجة، بحيث نقلت وسائل الاعلام أخيرا فضائح غش على كافة الأصعدة وبمساعدة الأولياء و حتى المربين، خاصة في صفوف الذكور ..

في أوقات المحن لا يملك أحد ترف القعود عن العمل في صفوف الساعين إلى حماية البناء الوطني

وضع الأمة خطير والشعب في محنة و ثالوث الجهل و الفقر و المرض يقرع أسماعنا ليل نهار، وبالتالي في أوقات المحن كهذه لا يملك أحد ترف القعود عن العمل في صفوف الساعين إلى حماية البناء الوطني، أو يملك رخصة الشح بنفسه أو ماله أو جهده عن المساهمة في العمل على تحقيق نجدة الوطنية، والسعي- بعدها- إلى رفعة الوطن وتقدمه ونهضته

وليس لأحد أن يدعي إرتهان أو احتكار مستقبل الاجيال بسياسة تجهيل و تغريب زبدة الوطن. والمحتكر- في السلع التي يحتاجها الناس- خاطئ. وهو في العمل السياسي والتربوي الوطني مجرم آثم. لأن الأول يحرم عددا من الناس- قل أو كثر- حقهم في منع استعمال سلع بعينها، والثاني يحرم الوطن كله، حاضره ومستقبله، من جهد أبنائه وعطائهم، ومن جهادهم بالنفس والمال والعقل والقول والفعل في سبيله.

الوطن الذي يصبح مستقبل أبنائه محكوم عليه بالتخلف والضياع

والوطن الذي يصبح مستقبل أبنائه محكوم عليه بالتخلف والضياع، يكون حتما في ذيل الأوطان ويكون أبناؤه عبرة للأمم وأمثولة بينها، حتى أمام أصغر الجيران، والجزائر اليوم لا بريق لها و لونها العلمي و الثقافي باهت شاحب، و الجارة تونس، على سبيل المثال، و التي تُعرف لدى الجزائريين بأرض السياحة كما يَعرف مثقفونا تونس من خلال جامع الزيتونة الذي أدى دورا بارزا قبل 1956 في تكوين النخب ذات الثقافة الدينية من تونس والجزائر وغيرهما.

لكن هناك جانبا علميا آخر غائب عن عامة الجزائريين، وحتى عن الكثير من المثقفين عندنا، وهو بروز نوابغ في جناحي المغرب العربي، في المغرب وفي تونس في مجال الرياضيات خلال العقود الماضية، ومصطلح “نوابغ” هنا ليس مصطلحا مبتذلا لأن الشواهد على ذلك ملموسة ودقيقة كما أشار لذلك الدكتور أبو بكر خالد سعد الله في مقال مهم له في ” رأي اليوم ” بتاريخ 21/06/2017، لأننا كثيرا من نصرف الأموال الباهظة على الفن و العفن، أو بما اصطلح عليه بالرياضة ، فالجري وراء الكرة جري وراء السراب، جري وراء الهواء ، أو جري وراء الريح على تعبير أحد الاولياء ايام زمان، و المقصود بالرياح هو الفراغ، أي الصفر..

القضية ليست قضية توابع رياضات بل نوابغ رياضيات

والدكتور سعد الله يذكر القارئ الكريم بقوله: “ثمة في الرياضيات مؤتمر يعقد في دولة من الدول المتقدمة مرة كل 4 سنوات منذ أزيد من قرن، يسمى “المؤتمر العالمي للرياضيات” يحضره آلاف الباحثين في فروع الرياضيات، ويشرف عليه الاتحاد الدولي للرياضيات، وتسلّم خلاله ميدالية فيلدز للفائزين (وهي أعلى وسام في الرياضيات يعادل جائزة نوبل في العلوم الأخرى).

شارحا ذلك بقوله “كانت آخر دورة للمؤتمر العالمي قد عقدت في كوريا الجنوبية عام 2014، أما الدورة الموالية فستكون في البرازيل خلال صيف 2018، وما لفت انتباه الدكتور سعد الله، أنه لم يجد من الأسماء العربية فيها سوى 4 أسماء كلهم يعملون في الخارج عدا واحد، فلاحظ أن أحدهم “قد يكون لبنانيا”، أما الثلاثة الآخرين فكلهم من أصل تونسي

وهكذا نلاحظ أن من بين 7 أساتذة عرب سيشاركون بمحاضرات رئيسية في دورات المؤتمر العالمي للرياضيات، يوجد 6 أستاذة من أصل تونسي، وأن جلهم درسوا أولا في تونس، إلا أن كلهم يعملون الآن خارج بلدهم.

هذا فخر كبير لتونس لأن المشاركة بمحاضرة في هذا المؤتمر تعتبر بمثابة اعتراف دولي كبير. وعلى كل حال، فهذا جزء من ميدان العلم عند الجارة الصغرى التي لا تملك ثروات ما تزخر به الجزائر، التي تكدس أسلحة “راشية”و صناعات خردة أكل عليها الدهر و شرب، تسببت في إفلاس الخزينة و أفقار الشعب وقد تكون سببا في فنائه قريبا لا قدر الله، لكن الباب لم يغلق أمام النخب المخلصة رغم تقاعس رجال السياسة عندنا. أما في تونس، ورغم ما يحاك ضدها من مؤامرات ورغم نقص التمويلات فقد أسست عام 2012 مركزا لمرافقة النخب في الرياضيات سمّته “معهد الأبيض المتوسط للعلوم الرياضية”.

الرياضيات مادة يحتكرها الذكور بدل الاناث خرافة

وعلى ذكر الرياضيات و للذين يدعون أن الرياضيات مادة يحتكرها الذكور بدل الإناث، ها هي ترحل ملكة الرياضيات المسلمة مريم ميرزاخاني، العالمة الإيرانية، وهي في سن الزهور 40 سنة، وهي أول امرأة تتوج بميدالية “فيلدز” في الرياضيات، وذلك “جراء مرض السرطان الخبيث، الذي ألتقم هذا الأسبوع أخونا جمال نجادي، مدير الطيران بشركة وينقس البريطانية، و الخبير في الملاحة الجوية و عمره 47 سنة، وهو أيضا في سن الزهور.
وتعد مريم ميرزاخاني، المولودة سنة 1977، أول امرأة تنال ميدالية “فيلدز” عام 2014، التي تمنح منذ سنة 1936 لعلماء رياضيات دون سن الأربعين، وهي بمثابة جائزة نوبل في مجال الرياضيات

والدكتورة مريم أستاذة في جامعة ستانفورد الأمريكية، ومتخصصة في هندسة الأشكال غير الاعتيادية، اكتشفت طرقا جديدة لاحتساب أحجام الأجسام ذي الأشكال المخروطية مثل سرج الخيل، وبدأت العمل كأستاذة للرياضيات في جامعة ستانفورد سنة 2008، وهي متزوجة ولها ابنة

وكانت مريم ميرزاخاني تحلم في طفولتها بأن تصبح كاتبة، غير أنها أبدت شغفا بالأرقام والمعادلات الحسابية منذ الصفوف الثانوية رافقها طوال حياتها.
كما فازت ميرزاخاني خلال مراهقتها بالأولمبياد الدولي للرياضيات لسنتين على التوالي في 1994 و1995، مع تحقيقها نتيجة ممتازة في النسخة الثانية.

هذا فقط لكي لا نطيل النحيب على أطلال منظومتنا التربوية مكتفين بتبادل التهم وعبارات المواساة التي مفادها أننا نمرّ بأسوأ مرحلة عرفتها المنظومة التربوية والجامعة الجزائرية والبحث العلمي فيها، بل الأمر جد و ليس هزل، و الإصلاح يحتاج إلى تظافر كل الجهود المخلصة و الايادي المتوضئة، و هي صيحات مبحوحة نرفعها وسط ضجيج و تهريج من باب ” وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ “.. “لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيد”.