وجهة نظر

العماري والمخزن .. من تخلى عن الآخر؟

لا يختلف اثنان في كون قرار إلياس العماري الاستقالة من قيادة حزب الأصالة والمعاصرة خطوة شجاعة وجرأة سياسية تحسب للرجل في كل الأحوال -على الأقل في شكلها_، وإن كان هذا في الحقيقة لا يغير شيئا من الأمر مادام المضمون يجعل من يدخل ذلك المربع لا يخرج بالضرورة إلا بالطريقة والوقت الذي تقرره أطراف يعرفها الرجل جيدا، وهو ما يعني أن الاستقالة ستبقى موقوفة التنفيذ في انتظار التعليمات بالموافقة أو الرفض للأمر ممن يهمهم الأمر.

تاريخيا ومن سمات عقلية المخزن أنه كلما أراد أن يقوم بـ”مهمة قذرة” لا يختار أيا كان لذلك، وفي العادة يكون الشرط الأساسي في ذلك الشخص هو ألا تكون له علاقة مباشرة بتلك الأطراف، أي أن اختيار الشخصيات من الروافد الهامشية يلعب دورا كبيرا في الاختيار لما يوفره الشرط في هؤلاء الأشخاص من مزايا لا يمكن أن تتوفر فيما سواهم -إلا في حالة استثناءات قليلة-، ومن أكثر تلك المزايا سهولة التخلي عنه عندما يراد ذلك دون أن يثير الأمر أي مجموعة أخرى في دوائر السلطة.

فالعماري يوم قبل المهمة قبلها بمنطق ابن البادية ذاك الحالم بتملك السلطة وتسلق سلم النجاح بأي طريقة وبأقصى سرعة ممكنة، هنا لا يهمه ما يقوله الآخرون “فالغاية هنا تبرر الوسيلة”، بل هو نفسه وهو في كنف القرب من دوائر القرار يكون أعمى بشكل تام عن كل هذه الأشياء، فهو يلهث للوصول إلى المنصب ولا يتسنى له في الغالب ذلك الوقت للنظر خلفه.

هو في الغالب فكر بنفس منطق الطرف الذي استغله للمهمة، فالرجل لا ننسى انه كان تعامل مع المخزن وساومه بالطريقة القذرة التي يشتغل بها الأخير نفسه، فقد كان ناشطا في الريف وكان قاد جمعية لضحايا الغازات السامة الاسبانية، وفتح بذلك ضرسا للدولة شكل لها حرجا في علاقتها بالجار الشمالي، بل يجب الاعتراف أن الرجل كان لعبا ماهرا في علاقته بالمخزن، إذ في فترة من الفترات كان هو الوحيد الذي يمكنه لعب دور “شعال العافية” والاطفائي في الآن ذاته، ولم يكن أحد غيره يستطيع القيام بنفس المهمة بالمهارة ذاتها.

لكن تغيرت الكثير الأمور منذ نتائج السابع من أكتوبر، فالرجل من ذلك الحين وهو يعيش حالة من “صدمة التجاوز”، تلك الصدمة التي تعتلي أي شخص تم التخلي عنه فجأة دون سابق إشعار وبين عشية وضحاها يجد نفسه مهملا في ركن ضيق داخل السلطة، حيث يكتشف دون أن يدري كيف أن كل ذلك الصرح العظيم الذي توهم أنه بناه تهدم كله في رمش أعين دون أن يجد حتى وقتا لاستيعاب الأمر.

فهنا ردة فعل الرجل تلعب دورا هاما في قلب المعطيات، فرد الاعتبار بالنسبة إليه والانتقام من الطرف الذي تخلى عنه يشكل الهدف الأساسي الآن، اللهم إلا إذا تدخل من وظفوه للمهمة سابقا لترضيته وتعويضه بمنصب أو وظيفة كرسالة شكر بعد “نهاية الخدمة”.

العماري اليوم يرسل أكثر من رسالة إلى أكثر من جهة، منها المباشر ومنها المشفر، فالرجل حولته نتيجة السابع من أكتوبر إلى حجمه الطبيعي وأنزلته من برجه العاجي إلى حقيقة الأمر الواقع، وهو أنه كان مجرد أركوز وهو الشيء الذي اكتشفه بشكل متأخر، بل انه يسعى حاليا لنفي كون سياسته هي إملاءات من أطراف داخل السلطة وهدد بالانسحاب لو صح ذلك. لكن بالطبع لا يمكن لأحد أن يصدق ذلك بل يمكننا الجزم بأن الرجل لم يصدق حتى نفسه فيما يقول. فالخطابات الأخيرة للرجل والتي تختلف كليا عن ما كان قبل فترة بنكيران تبين بشكل جلي أن الرجل كان من قبل لا يتصرف من تلقاء نفسه.

أما الأهم وهو عن الخطابات المشفرة فهي موجهة لأطراف هي تعرف أنها لوحدها المستهدفة دون غيرها، و لها لوح في أكثر من مناسبة بكشف ما حدث وما قيل في الصالونات المغلقة، (نفس ردة فعل البصري ، ونفس الشيء مع رضا اكديرة وآخرون ممن تم التخلي عنهم بعد سنوات في خدمة السلطة مع اختلاف في المواقع والمهام).
ربما مشكلة العماري الأولى هو أنه أراد أن يكون مخزنيا لكن بطريقته هو، وليس بطريقة من صنعوه، وهو الشيء المرفوض في مثل هذه الحالات بالطبع، إذ أن من ضرورات وشروط المهمة هو السمع والطاعة والابتعاد ما أمكن عن الصورة والإعلام خاصة، أو بصيغة أخرى “لا تقل إلا عندما نقول لك ذلك”، لكن يبدو أن ما يشبه حالة من الغيرة من بنكيران فالرجل يريد أن يعيش هو الآخر على طريقة النجومية السياسية اسوة بالأول.

على أي هي هكذا قواعد “الخدمة المخزنية” البقاء للأصلح ومن يخدم بشكل أكبر وأحسن وبتكاليف أقل وهو ما وجد اليوم في أخنوش، فهو من يلعب الآن دور الزوجة الثانية التي لا تزال تفيض أنوثة وتعيش حيوية ونشاط ولم يصلها الذبول ولا تجاعيد السياسة بعد، والأهم أنه مستعد للخدمة دون كثير من “الفهامة السياسية”. هو المخزن هكذا ذوقه، هو مثل الخل لا وفاء ولا أمان له، يجد راحته مع من يعطي وينفذ دون ماذا؟ ولا كيف؟ ولا أين؟، فهذه الثلاثية هي له فقط وحده لا شريك له في ذلك.

على أي السلطة لا تهمل ولا تتخلى على من خدمها لذلك فحتى لو استقال الرجل فسيكافئ بأي منصب في الدولة ولن يقل الأمر في ذلك عن منصب سفير في أي بلد من بقاع العالم، أو حتى من الممكن كذلك أن يوضع في الثلاجة ريثما يعدوا له مهمة جديدة ، يلزمه فقط ألا يخرج عن النص أو عن الحدود التي سترسم له بعد الاستقالة فكل شيء وارد.