وجهة نظر

خطاب العرش ومحاذير التنزيل

شكل خطاب العرش لهذا العام، نقلة نوعية في نوعية الخطاب الذي اختار الجالس على العرش أن يتواصل به مع شعبه. إذ لأول مرة في تاريخ التواصل بين الملك والشعب، يصل الوضوح والصراحة إلى مداهما، ويصل الحزم والحسم في قضايا ظلت تُدار بين فعاليات المجتمع، وفي صالونات النخب المهتمة بالشأن العمومي للمغاربة، بعيدا عن الخطاب الصريح لمن يهمهم الأمر، إلى مستوى من الوضوح غير القابل للتأويل. مما حول هذا الخطاب الصريح والواضح إلى مادة إعلامية فتحت شهية كل المهتمين بقضايا البلد، وحتى غير المهتمين. وتعددت القراءات المُحلِّلة للخطاب. فلم يَشُذَّ أحد ممن أحس في نفسه “إشارة” ما بين سطور الخطاب، عن الانخراط في تحليل هذا الخطاب، والإدلاء برأيه فيه؛ بدءا بالسيد رئيس الحكومة، مرورا بالسادة الوزراء، فأمناء الأحزاب، وانتهاء بأصغر موظف في البلد. الكل أدلى برأيه، والكل عبر عن فهمه، ولكن لا أحد قرأ فيما بين سطور هذا الخطاب، ولا حتى في منطوقه الواضح الصريح، أنه مقصود منه، وأن الوقت قد حان للاعتراف بالمسؤولية، الأخلاقية على الأقل، عن التردي والترهل الذي يعيشه المغرب والمغاربة في كل المجالات. فلا أحد انبرى ليعترف أمام المغاربة أنه يتحمل جزء من المسؤولية، وأن ساعة الحقيقة قد دقت، وأنه قد آن الأوان للاعتراف، وتقديم الحساب.

ولكن الذي وقع، للأسف، هو التمادي في رفض الاعتراف، والاستمرار في رمي الكرة إلى ملعب الخصم، واعتبار الجحيم هو الآخر، والمقصود هو الغير. فلم نسمع، إلى حدود كتابة هذه الأسطر، شخصية ممن يعلم الشعب تورطهم في الاقترافات التي أشار إليها الخطاب، من صرح أو لمَّحَ، كأضعف الإيمان، بمسؤوليته عما يجري في المغرب. ولكن الذي وقع هو التسابق إلى تثمين الخطاب، وتحليله، وتأويل ما بين سطوره، حتى تحول أغلب مسؤولي البلد؛ من وزراء، وزعماء أغلبية، ومعارضة، وموظفين كبار من أصحاب المشاريع الفاشلة، إلى رماة للتهم والمسؤوليات؛ يقرعون من دونهم، من الموظفين والمرؤوسين الصغار، بالكلمات القوية للخطاب، ويتوعدونهم بعظيم السؤال، والمحاسبة، وكأنهم قد أمِنوا بِجَنابِ الملك ما يجعلهم فوق المحاسبة والسؤال. وكأن الخطاب لم يقصدهم، ولا ألمح إليهم.

وقد قرر الملك في حقهم ما قرر، وأشار إليهم بالبيان الواضح الصارخ ما لا يحتمل أكثر من معنى، أو مقصود. فمن يقصد الملك بقوله:” فعندما تكون النتائج إيجابية، تتسابق الأحزاب والطبقة السياسية والمسؤولون، إلى الواجهة، للاستفادة سياسيا وإعلاميا، من المكاسب المحققة. أما عندما لا تسير الأمور كما ينبغي، يتم الاختباء وراء القصر الملكي، وإرجاع كل الأمور إليه”. إن لم يكن هؤلاء؟ !. ومن يقصد بقوله:” ما الجدوى من وجود المؤسسات، وإجراء الانتخابات، وتعيين الحكومة والوزراء، والولاة والعمال، والسفراء والقناصلة، إذا كانوا هم في واد، والشعب وهمومه في واد آخر؟” إن لم يكن هؤلاء؟ ! ومن يقصد بقوله:” عندما يقوم مسؤول بتوقيف أو تعطيل مشروع تنموي أو اجتماعي، لحسابات سياسية أو شخصية، فهذا ليس فقط إخلالا بالواجب، وإنما هو خيانة، لأنه يضر بمصالح المواطنين، ويحرمهم من حقوقهم المشروعة .إن لم يكن هؤلاء؟ ! . ومن يقصد بقوله:” على كل مسؤول أن يمارس صلاحياته دون انتظار الإذن من أحد. وعوض أن يبرر عجزه بترديد أسطوانة “يمنعونني من القيام بعملي”، فالأجدر به أن يقدم استقالته، التي لا يمنعه منها أحد ” .ومن..؟ ومن..؟ !!

إن خلل التحجر الكامن في العقليات(1) ، كما أشار إليه الخطاب الملكي ، خلل بنيوي وجذري، لا يمكن إصلاحه، بمجرد إعادة تغيير المواقع، مع الحفاظ على ذات الشخوص، والمسؤولين، كما جرت العادة. ولكن الحل في تغيير هذه العقليات، وجعل تحمل المسؤوليات مُؤسَّسا على تعاقد واضح والتزام صريح، تُربَط فيه المسؤولية بالمحاسبة، كأحد أهم أسس إعادة تشكيل هرم السلطة والإدارة من جديد. وكل محاولة للإصلاح لا تستحضر هذا المعطى، ستُؤَبِّد الوضع المهترئ، وستزيد في استمرار الهتك في حق هذا الوطن، ومُقدِّراته، وشعبه.

فبعد الخطاب الملكي، الكل متهم، والكل متحمل لجزء من المسؤولية، ولا أحد فوق المحاسبة. وكل محاولة للالتفاف على التنزيل السليم والمُواطِن للخطاب الملكي، أو محاولة لاستغلال توجيهات هذا الخطاب لأجل تصفية حسابات ضد هذا الطرف أو ذاك، أو تشديد الخناق على البعض دون البعض، أو تقديم أكباش الفداء بين يدي الملك لإظهار حسن الالتزام والطاعة، أو محاولة لتمرير بعض المرفوضات الشعبية استنادا إلى مقتضيات الخطاب، واحتماءً بقرارات القصر، تحت تَعِلَّة التنزيل الصارم لتوجيهات الملك وقراراته، كما سجل في سلوكات أكثر من مسؤول في حق مرؤوسيه، وأكثر من مُرْتَفِق في حق موظفين صغار بمختلف المرافق العمومية، وأكثر من مسؤول حكومي في حق موظفي وزارته، ليس آخرها الخرجة المثيرة لوزير الوظيفة العمومية حول عدم استحقاق رجال التعليم لعطلتهم السنوية بسبب النتائج الدراسية الهزيلة المحصلة، اعتمادا على “قياس مع الفارق” على قرار الملك حرمان بعض الوزراء الذين أخلفوا موعدهم مع مشاريعه في الشمال،… فكل هذا مع الإصرار على هذه القراءة المُجْتَزَأة للخطاب، في محاولة للهروب إلى الأمام، وعدم الاعتراف بالمسؤولية، سيقلب الوضع غير الوضع، وسيحول الرغبة في الإصلاح من أجل الأحسن، إلى مجرد “حملة تطهير” جديدة، بضحايا جدد، يعيدنا إلى المربع الأول، بعد أن نخسر فيه أكثر مما سنربح.
دمتم على وطن.. !!