منوعات

أحزاب مغربية في مهب الريح 

ما فتئ خطاب العرش الأخير يحظى بمزيد من المتابعة من قبل المعنيين بالشأن السياسي المغربي و العربي ، لما تميز به من خاصيات هامة ، فهو خطاب انتقادي تشريحي لانشغالات الأمة وقضاياها المصيرية ، و لعل أهم خصيصة أثارت انتباه صاحب هذه الأسطر تحديدا ذلك النفس الاستفهامي و توالد الأسئلة الاستنكارية التي يصوغها عامة الشعب في أكثر من مناسبة  ، على رأسها الاستفهام الدراماتيكي بالغ الخطورة : (إذا اصبح ملك المغرب غير مقتنع بالطريقة التي تمارس بها السياسة ، و لا يثق في عدد كبير من السياسيين فماذا بقي للشعب ؟ ) . فما العوامل التي أدت إلى إفساد الفاعلية الحزبية  ، و أصابت الحياة السياسية الوطنية في مقتل ؟ و لماذا لم يعد غالبية ” السياسيين ” قادرين على التعاطي إيجابيا معا مطالب الشعب و تطلعاته المشروعة إلى الحرية و العدل و الكرامة ؟ لماذا يقتصر جل الأمناء العامين على مخاطبة المواطنين في ستوديوهات التلفزة و الصالونات المغلقة ، دون التوجه رأسا إلى المغرب العميق ، و استكناه آلام المستضعفين و استقراء آمالهم و أحلامهم بالعيش الكريم ؟ إليكم جوابي المتواضع الذي يعود إلى أكثر من ثلاث سنوات !

-تعدّ المملكة المغربية من الدول العربية القليلة التي اتخذت ، قبيل الاستقلال وبعده، التعددية الحزبية، مكوناً “بنيوياً” في المشهد السياسي العام ، لمواجهة مظاهر القصور والضعف التي ميّزت المعطى السياسي للدولة “الحديثة”، وبناء مشروع مجتمعي لمغرب الغد. وشهدت الساحة السياسية الوطنية فعالية حزبية، بالغة الأهمية في العقود الثلاثة بعد الاستقلال، تعلق الأمر بالمساهمة الملموسة في نشر الثقافة السياسية الرفيعة، وتأهيل المواطنين وتأطيرهم  وتوعيتهم بواقعهم والعالم المحيط بهم، و الدفاع عن الطبقات الشعبية المحرومة، والوقوف أمام أصحاب القرار، ومواجهتهم بقدر كبير من النضال والتضحية ونكران الذات.

-وكان من المفترض أن يمهد هذا السبق “الاستثنائي” لإرساء تجربة ديمقراطية عربية نوعية، قد تتخذ نموذجاً يحتذى في باقي الأقطار العربية، ومثالاً يعمم من أجل بلورة مشروع وطن عربي موحد، يمتح مفرداته الوجودية من سجل الديمقراطية الكونية والقيم الإنسانية المشتركة، غير أن ذلك لم يحدث ، ما السبب؟
يقرّ المعنيون والمهتمون بالشأن السياسي المغربي بأن أصحاب القرار تمكنوا من تحجيم الهياكل الحزبية وتقليم أظافرها وتجريدها من “أنيابها”، أثناء “سنوات الرصاص” والتجاذبات السياسية والصراع على تقاسم السلطة، بوسائل بائدة و لا تليق بمنطق التطور التاريخي العالمي ، أقلها أسلوب الترغيب والترهيب والاختراق والانشقاق، بيد أن تراجع الأداء الحزبي المغربي، في العقدين الأخيرين، يعود أيضاً وربما بدرجة أكثر حدة، إلى الهيئات الحزبية نفسها، والتي رضخت بإرادتها لمسلكيات سياسوية هجينة، وفضلت الانشغال بالمصالح والقضايا الضيقة ، على حساب القيم الوطنية النبيلة ، الداعية إلى الديمقراطية بمعناها الإنساني الأشمل . ومعلوم أن الفضاء السياسي المغربي الراهن يضم نحو 35 “حزباً”، غالبيتها نكرة لا يعرفها الشارع المغربي، ولا يسمع عنها إلا في أثناء “الحملات الانتخابية” و”الاستحقاقات” البرلمانية والجماعية. وبالتالي، هي عبء على كاهل الوطن، واستنزاف مادي ومعنوي لا طائل منه، بل إن عدمها أفضل ألف مرة من وجودها!

-ويمكن القول، من دون خشيةٍ من المبالغة، أن حزبين مغربيين اثنين هما الجديران بالاحترام والاعتبار النسبيين ، لما يتميزان به من مواصفات وسمات تكوينية ، قد نجدها في الهياكل السياسية الدولية المتقدمة، حيث تحترم ، و إلى درجة كبيرة الديمقراطية الداخلية ، ويعمل بمبدأ الشفافية والحوار وتقبل الاختلاف والتنوع والاعتراف بالتيارات والتداول الحضاري على “الزعامة”. ويا للمفارقة، الأول يمثل الإسلام السياسي المعتدل (العدالة والتنمية)، و” يرأس ” الحكومة الائتلافية الحالية، والثاني يمثل اليسار الاشتراكي التقدمي (اليسار الاشتراكي الموحد)، مع وجود فرق أن “العدالة والتنمية” يحظى بشعبية معتبرة ، وقريب من المغاربة ومن انشغالاتهم الملموسة وتطلعاتهم “الروحية” والمادية، و”اليسار الاشتراكي الموحد”، على الرغم من نياته الحسنة وأطره الرفيعة، لم يجد بعد المفتاح الذي يدخل به قلوب ملايين المغاربة.

وفي المقابل، هناك حزبان آخران يجران وراءهما مشروعية تاريخية ووطنية أكيدة، كما أنهما اعتبرا من أبرز الهياكل الحزبية في العالم الثالث، في الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين. وما من شك أنه كلما ذكرنا حزب الاستقلال، استحضرنا المؤسس خالد الذكر علال الفاسي، صاحب النظر الثاقب والفكر السديد والثقافة العميقة. ولعل مؤلفاته الوطنية والسياسية والمعرفية، ومنها كتاب النقد الذاتي، توجز، بشكل واضح ، صورة الزعيم السياسي البطل، فهو رجل فكر وإبداع ورجل نضال يومي من أجل الدفاع عن ثوابت الأمة.

– الآن، أضحى حزب الاستقلال مجرد ذكرى تقترن بالمواسم الانتخابية وتوزيع الغنيمة مع الضرب بعرض الحائط بأدبياته المعرفية والسياسية والأيديولوجية المحافظة والصادقة، والاقتصار على البهرجة الشعبوية والاستعراض الإعلامي عديم الأهمية، ما استدعى مواجهة قوية من “تيارات” داخلية، تدعو إلى رفض إضعافه والتنديد المطلق  بتغيير خطابه ، و الخروج على أدبيات الحوار المنفتح، البعيد عن توظيف المعجم العدائي والسب العلني للشرفاء من أبناء الوطن. تماماً كما أن حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية الذي كان يقيم الدنيا ولا يقعدها في “الزمن السياسي الجميل”، في عهد المهدي بنبركة وعمر بنجلون وعبد الرحيم بوعبيد، أضحى “محارة” فارغة، ومستعداً للتواطؤ مع الشيطان من أجل معارضة “شرسة” للإسلام السياسي “الظلامي”، وتعطيل الانتقال الديمقراطي الهش، ويتجاهل “الديمقراطية” و”الانفتاح” والأصوات المنادية بالتنزيل الديمقراطي للدستور الجديد وإصلاح الدولة من داخل الحزب نفسه، فلا صوت يعلو فوق صوت “الزعيم”، أما الأصوات المعارضة والآراء المختلفة، فلا محل لها من الإعراب، لأنها تتعارض و”قوانين” الحزب و”مقرراته” !.

إنها العودة إلى الستالينية والقبضة الحديدية، والدوس على الديمقراطية التشاركية والحكامة السياسية ومبدأ الاختلاف ، وباقي الشعارات واليافطات التي توظف خصيصاً للاستهلاك الإعلامي  والثرثرة في أروقة الفنادق المصنفة. و لا مجال للحديث عن باقي الكيانات الحزبية الإدارية المصنوعة في معامل السلطة ، آخرها ” حزب ” الأصالة و المعاصرة ، و هي  في مجملها تنفذ دور المعرقل لأي تحول ديمقراطي حقيقي !

-فهل يمكن إقامة دولة عصرية تستبطن المشترك الدولي وتستحضر القيم والمبادئ والأعراف والمواثيق المتعارف عليها كونياً بهذه الفقاقيع الهوائية؟ وهل يمكن بناء مجتمع ديمقراطي حداثي يضمن التنمية، والعدالة الاجتماعية والحرية والكرامة الإنسانية بهكذا هيئات سياسية مترهلة بئيسة ، تفتقر إلى أبسط أبجديات الحداثة والديمقراطية والفكر الراجح ، وتتنكر للمبادئ الأخلاقية والأيديولوجية التي سطرها الزعماء المؤسسون بدمائهم الطاهرة، ونزعتهم الوطنية الخالدة، وتتخلى عن وظيفتها المقدسة: التأطير والتكوين وتمثيل الناخبين والمساهمة في ممارسة السلطة على قاعدة التعددية والمناخ الديمقراطي بحصر المعنى؟