منتدى العمق

التاريخ والمنهج : النوازل مصدر لكتابة تاريخ المنسيين

لا مراء أن كتب النوازل بإمكانها ملء البياضات المتعددة التي تعاني منها كتب التاريخ التقليدية هذه الأخيرة اهتمت بالجانب السياسي ولم تعطي الجانب الاقتصادي والاجتماعي الأهمية التي يستحقها ماعدا بعض النثارات التي تقع متفرقة في بعض المصادر ويصعب لم شتاتها, ويعزى هذا الى عقلية مؤرخ العصور الوسطى الذي ليس في نهاية التحليل سوى إنتاج لمجموعة من الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية.

كل هذا يجعل التاريخ الحقيقي في نظر أغلب مؤرخي المرحلة هو ذاك الذي يعبر عن مشاغل الحكام والسلالات الحاكمة. لهذا اتجه الباحثين إلى أدب النوازل نظرا لما تمدنا به من مادة دسمة عن تاريخ المنسيين ,تساعد في إعادة كتابة التاريخ الاقتصادي والاجتماعي ولا غرو أن هذه المصادر غير التاريخية تسعى إلى اختراق اللامفكر فيه في مجال التاريخ والإجابة عن المسكوت عنه.

من هنا تبدو الأهمية المتعاظمة للنوازل الفقهية في الكتابة التاريخية ذلك أن النبش في التراث الفقهي ,وتعميق معول الحفر فيه ,والتنقيب عما يزخر به من وثائق ,يشكل قناة نحو تطوير البحث التاريخي ، وقد أجمع الدارسون المهتمون بالتاريخ الاقتصادي على أهمية النوازل في معرفة أحوال المجتمع خاصة وأنها تثير أسئلة تتعلق بتفاعل مختلف مكوناته وفعالياته، فهي تعكس مختلف مظاهر المعاملات والمشاكل التي تترتب عنها بين الناس،كما تتطرق لموضوع الجبايات ومظاهر القهر التي تنشأ بين المجتمع والدولة بالإضافة إلى العديد من القضايا التي تتصل بالحياة الدينية والروحية والعلمية للمجتمع وهي مواضيع لا تتيح المصادر التقليدية إمكانية الخوض فيها.

والظاهر أن النوازل تتميز بعفويتها وبراءتها من جهة ثانية لأنها لم تصدر عن سلطة رسمية ولم تتلون بلون إيديولوجي أو سياسي ،فابتعاد المفتي عن السلطة الحاكمة وفر مناخا من الحرية لفكره دون تدخل سافر من الجهات الرسمية مما يجعل النازلة نصا تاريخيا محايدا يفوق أحيانا قيمة النص التاريخي نفسه أو يمكن من إعادة البناء التاريخي بناءا منطقيا ،والظاهر أن الاعتماد على النوازل في البحث التاريخي لازال قليلا خاصة إذا عرفنا الصعوبات الكثيرة التي تواجه الباحثين، والتي تجعل من النصوص النوازلية أدوات غير طيعة تستلزم القيام بجملة من الإجراءات القبلية التي تهدف إلى إعداد النصوص كمادة إخبارية وتجريدها من الصبغة الفقهية التي تطبعها.

تتشكل الفتاوي عموما من شقين سؤال وجواب وغالبا ما يكون السؤال موجها لفقيه معروف، لكن يحصل ألا يذكر اسم الفقيه المستفتى، بحيث يكتفي جامع هذه النصوص بنسبة الفتوى إلى بعض الشيوخ أو إلى بعض الفقهاء وهذا من شأنه وفي غياب أية مؤشرات أخرى أن يحول دون معرفة المفتي وتأطير النازلة في الزمان والمكان ،وهذا أمر على قدر كبير من الأهمية لأن كتب الفتاوي لم توضع أصلا لكي يستعملها المؤرخ ،فهي نصوص جمعت من أجل الفقهاء والمشتغلين بالفقه،ولذلك فهي لا تهتم بعامل الزمان أو المكان إلا ناذرا. لكن غياب اسم المفتي الذي وجه إليه السؤال،لا يحول دون معرفة ما يسمح باستغلال النازلة،فقد يحمل النص تاريخ ومكان السؤال،وهذه مثلى بالنسبة للباحث وإن كانت قليلة،لكن حتى بدون ذلك فإنه يمكن التعرف على الفقيه في الحالات التي يقتصر فيها صاحب المجموع على صيغة و”سئل”أو “سئل” أيضا التي تحيل على فقيه ذكر اسمه في بداية مجموعة من فتاويه،كما يمكن ذلك من خلال النصوص التي تحمل أسماء الشهود العدول، وتعتبر الإستشهادات من أمهات الفقه المالكي وبالمفتين المشهورين مؤشرات تقربنا من زمن النازلة. إلى جانب تحقيق زمن النازلة يثير استغلال النوازل إشكالا حقيقيا يتجلى في ظاهرة الافتراضي والواقعي وإن كان بالإمكان الاهتداء إلى ملامح الواقع في هذه القضايا، اعتبارا لما تقدمه لنا من معطيات تتعلق بأمور الأرض والمنازعات على الماء والمحاصيل ومشاكل الشراكات في الفلاحة وقضايا الغصب والأحباس،ولما تورده من رسوم وأسماء الشهود العدول الذين أمضوا عليها وأسماء الأشخاص المتخاصمين وموضوع الخصام ومكانه ومراسلة القضاة لكبار الفقهاء بشأن بعض القضايا العرفية وإجازتها من قبل بعضهم،أو ترد في سياق السؤال أو الجواب عبارات صريحة من قبيل” وهذه النازلة كثيرة الوقوع عندنا” ” جرت العادة بالبلد” أو “الحالة عندنا الأن” كما أن البنية اللغوية للسؤال كثيرا ما تنم عن عناصر واقعية النازلة ، حيث يبدو أن المستفتي من العوام فيستعمل عبارات من اللغة الدارجة ذات تراكيب ركيكة تطبعها التلقائية.

بصفة عامة فإن هناك مجموعة من القرائن التي يمكن الاطمئنان إليها للتأكد من واقعية النازلة كأن تتعدد الإجابات حول مشكلة اجتماعية معينة أن مشاركة أكثر من فقيه في معالجة قضية ما كثيرا ما يعني أنها كانت مطروحة بحدة،أو أن يدمج المفتي ضمن جوابه أمثلة ملموسة مستمدة من محيطه الاجتماعي، كما أن النازلة الافتراضية هي في الأصل حالة من الحالات الممكنة الوقوع، كما أن تحديدنا لطبيعة المستفتين أي طلبة المفتي،هو على حد ما تعبير عن اهتمام هؤلاء الطلبة بقضايا معيشية خاصة وأن أغلبهم لهم أصول قروية.

يضاف إلى هذا إشكال أخر يتمثل في الاختلاف حول الاعتماد في البحث التاريخي على السؤال أم الجواب، إن المؤرخ يهتم بالدرجة الأولى بالخلفيات الاجتماعية والسياسية للنوازل، من هنا قيل كثيرا بأن السؤال أهم من الجواب في النوازل ،باعتبار أن الأول يعكس إلى حد ما هموم وذهنية السائل وعبره هموم وذهنية المجتمع، إلا أنه في كثير من الأحيان لا يمكن فهم تفاصيل وسياق النازلة إلا على ضوء بعض المقدمات والاستطرادات التي تأتي على لسان المفتي،وهذا ما وضحه مخرجوا المعيار حينما أشاروا بعبارة تكررت كثيرا “وسئل فلان عن نازلة تظهر من سياق إجابته”، من جهة ثانية ليس بالإمكان إغفال دور الفقيه كطرف فاعل في معالجة النزاعات والإجابة على ما يؤرق الناس،وذلك أن تدخلاته التقنية كفقيه لا تلغي دوره كإنسان ولا اندماجه في قضايا وقته ،ولهذا نجده في تعامله مع مبدأ الضرورة والمصلحة ومع المسائل العرفية والأمور التي تتصل بالجهاز المخزني يبدي بحسب موقعه والفترة التي يعيش فيها تفاعلات مختلفة مع هذه النوازل وربما هذا ما يبرر اختلاف الفتوى في العديد من المسائل بين الفقهاء وربما هذا ما يبرر أيضا ما كان للمذهب المالكي بالغرب الإسلامي من موقع في نفوس أهله.

هناك في الأخير إشكال منهجي يتمثل في التعامل مع النص النوازلي كمادة وحيدة للتركيب التاريخي فمهما قيل عن أهمية النوازل فإنها غالبا ما تفرض على الباحث أن يستعين بأدوات مصدرية أخرى حتى يتمكن من سد الثغرات الأساسية التي تميز نصوص النوازل.

المراجع:
_الدكتور إبراهيم القادري بوتشيش: إضاءات حول تراث الغرب الإسلامي وتاريخه الاقتصادي والاجتماعي.دار الطليعة .الطبعة الأولى.بيروت 2002.
_محمد فتحة : النوازل الفقهية والمجتمع : أبحاث في تاريخ الغرب الإسلامي.منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية.الدار البيضاء 1999.
_عز الدين أحمد موسى: النشاط الاقتصادي في المغرب الإسلامي خلال القرن السادس الهجري.الطبعة الأولى 1938.دار الشروق بيروت.
_عصمت عبد اللطيف دندش: الأندلس في نهاية المرابطين ومستهل الموحدين.عصر الطوائف الثاني.دار الغرب الإسلامي. الطبعة الأولى بيروت لبنان. _السيوطي:أدب الفتيا، محيي هلال سرحان.مطبعة الإرشاد.بغداد 1986.
_أحمد الطاهري: عامة إشبيلية: أطروحة لنيل دكتوراه الدولة في التاريخ الإسلامي.الرباط.1994.
_بنميرة عمر:النوازل والمجتمع: مساهمة في تاريخ البادية المغربية بالمغرب الوسيط القرن14و15م.د.د.ع مرقونة كلية الأداب الرباط 1989.
_البادية المغربية عبر التاريخ” أعمال ندوة نظمتها الجمعية المغربية للبحث التاريخي.منشورات كلية الأداب الرباط1999. سلسلبة ندوات ومناظرات رقم77.
_الدكتور الحسين بولقطيب: جوائح وأوبئة مغرب عهد الموحدين.منشورات الزمن.قضايا تاريخية. العدد 4. _مجلة أمل: الفلاحة والفلاحون عبر التاريخ: العدد9. السنة الثالثة. مطبعة النجاح الجديدة.1997.
_العلم الثقافي ملحق أسبوعي يصدر عن جريدة العلم السنة 34. السبت18 محرم 1423 ه الموافق 22مارس 2003 م.
_” محنة الكتابة التاريخية العربية بين التأريخ والمؤرخ” قراءة نقدية في أوراق مؤتمر” كتابة التاريخ الإسلامي الإشكالية والمنهج،بيروت14-16 تشرين الثاني نوفمبر1997.إدريس هاني.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *