وجهة نظر

هدية شفيق إلى اللغة العربية

نَشَرت مجلةُ (زمان) في نسختها الفرنسية الصادرة بالمغرب، وبعددها الذي صادفَ صدورُه (دجنبر 2017م) الاحتفالَ السنوي باليوم العالمي للغة العربية، حواراً مطوَّلاً في ثمانِي صفحات مع السيد محمد شفيق العميد السابق للمعهد الملكي للأمازيغية.

وقد أفاض المُحاوَرُ في الحديث عن أمور كثيرة بدءاً من ميلاده وطفولته ومراحل دراسته ثم عمله، وانتهاءً بنضاله من أجل قضية الأمازيغية، ورأيه في كثير من أحوال المغرب وتاريخه ورجاله وحركاته السياسية والوطنية. ولم يُفوِّتُ المُتحاوِران (الشخص والمجلة)، الفرصةَ، لتأكيد عَدائهما المَجّاني للعربية والفُصحى على وجه الخصوص.

أما شفيق فقد تحدَّثَ، كالعادة، عن مُعارَضته المستميتة للتعريب والسياسة العمياء، كما سمّاها، التي أدَّت إليه، ومن ثمَّ وجَّه صَفعتَه القوية للعربية بأن قال: «.. إني لَمقتَنِعٌ بأن العربية لغةٌ ميِّتة»، وأما المجلة التي تَقتاتُ من فُتاتِ الموائد الفرنكفونية، فقد رَأَت أن تَزيد هذه الجملة شرحاً وتَحشِيةً وتوضيحاً، وتُضيف إلى موقد النار حَطَبَةً، وتُسلِّط عليها عَدَستَها التكبيرية التَّفخيمية، فاختارتها لتكون العنوانَ المفضَّل لحوارها الطويل الذي كتبته بالبنط الأسود العريض على هذا النحو: «العربية الفُصحى لغةٌ مَيّتة». L’arabe classique est une langue morte. وانتبِهوا جيّداً لكلمة (classique)، فهي الكلمة المفضَّلة عند طائفة المُستشرقين والفرانكفونيّين ومنظٍّري السياسة اللغوية الاحتلالية جميعاً، لنَعت (الفُصحى) إمعاناً في الإيحاء بانتهاء عهدها ومدّة صلاحيتها.

تركت المجلة “المحترَمة” جانباً كلَّ الموضوعات الكثيرة والقضايا الشائكة التي تناولها الحوارُ الطويل، وفي كلَّ نقطة منها حقولٌ من الألغام والمَطَبّات، وحُشود من الأقوال والآراء المتضَمِّنة لكثير من الكلام المحتاج إلى أخذ وردّ ومناقشات ومُطارحات (ونحن بدورنا نترك أمرَها لحُكم التاريخ ونزاهة الأٌقلام الموضوعية الرَّصينة)، ولم تجد شيئاً فيه من الإثارة الإعلامية والتسويق التّجاري، إلا هذه الجملة التي قالها شفيق عن العربية في هذه الأيام السعيدة التي يحتفل فيها العالَمُ كلُّه، وليس المغاربة وحدهم، بعيد العربية، معبِّرين لها عن آمالهم وأمنيّاتهم بطول العُمر ومزيدٍ من التقدّم والتطوّر والازدهار، ولو من باب المجاملة. فالمثَل المغربي يقول: «العداوة ثابتة والصوابُ يكون».

لم يكن القصد أن أدخل في مناقشة أو مُشاكَسة مع الأستاذ شفيق الذي لا أجد في الحقيقة فيما يُعيده ويُكرِّره عن العربية والتعريب، بمناسبة وغير مناسبة، كلما كتَب أو خَطَبَ أو ندَبَ نفسَه للحديث في الموضوع، شيئاُ يُستفادُ أو قولاً يُضاف إلى ما لم يَقله الدّهاقِنة من مُنَظِّري السياسة اللغوية للاحتلال الإنجليزي والفرنسي في الشرق والغرب، الذين لم يُبقُوا، منذ القرن التاسع عشر إلى اليوم، في جُعبتهم من الشتائم إلا رَموا بها وجهَ العربية، ولا تُهمةً من التُّهم الثقيلة الشنيعة التي تُحصي مثالبَ الفصحى وتُعدِّد جِناياتها التي تجرُّها إلى مِنصّات المشانِق، إلا وأَطنبوا في شرحها وتوسَّعوا في تفصيلها، وحاكَموها بها، وحفَّظوها لمن جاء بعدهم من وَرَثتهم وحَمَلةِ رسالتهم وأمانتهم، وغَرَسوا في أذهانهم الحقدَ عليها، وأنشَأُوهم منذ الصِّغَر على الكراهية الأبَدية لها.

لقد كانت الفصحى غُصَّةً دائمةً في حُلوق المتَأَزِّمين من وجودها، وشوكةً في أرجُلهم، وصخرةً في طريقهم، لا يَهدأ لهم بالٌ إلا إذا نَزعوها وزَحزحُوها من مكانها وكَسَروها وشَطَبُوا آثارها من سِجلِّ الوجود والحياة… لقد قالوا عنها في أدبياتهم وكتُبهم ومنشوراتهم ومقالاتهم التي يعرفها كلُّ دارس لتاريخ الحقد الثقافي الاستعماري والسياسة اللغوية الاحتلالية الأوروبية الحديثة وآراءِ أساتذتها وأعلامها وتلاميذهم وتابعيهم وتابعِي تابعيهم، من عهد ويليام سبيتا وويليام ويلكوكس في الشرق، إلى عهد آلان بنطوليلا ودومينيك كوبي ورُوط غروريشار في الغرب، كلَّ ما يمكن أن يخطر، أو لا يخطر على بال قُضاةِ المحاكم العسكرية التي لا تنعقد إلا من أجل النُّطق بالإعدام.

ففي لوائح اتهاماتهم القديمة/الحديثة لا بد أن تجد أن الفصحى: لغةٌ: متخلِّفة، وميِّتة، ومُنقَرِضة، وكلاسيكية لا تناسب الذوق العصري، وغير صالحة للتعليم وتلقين العلوم الحديثة، وصعبة، ومعقَّدة، ولغة النخبة والطبقة الأرستقراطية، ولغة الدين الجامدة المُعيقة للنموّ والتطور، ولغة الاستعمار، وسبَبُ تخلُّف الأمة، وليست لغة الأمّ ولا لغة الحاضر والمستقبل… والقائمة طويلة. فهي أصلُ الداء وكلِّ البلاء.. … فماذا أضاف شفيق من جِدَّةٍ وإبداعٍ إلى هذه اللائحة الطويلة من التُّهم المعروفة، سوى اجترارِ ما قالوه وتلاوةِ الحُكم الذي أصدَروه منذ مئتَي عام ؟

إن الدرس التاريخي الحقيقي الذي لا يرغبُ هؤلاء الناس في الاستفادة منه، هو أنهم لا يريدون سلوكَ طريق آخر للدفاع عن الأمازيغية إلا طريقَ إشعال الحرائق ضد العربية وخلق الصراعات التي تُعمِّق الجراحَ معها ومع الناطقين بها والمحبّين لها (وهل هناك مسلمٌ حقيقي لا يحبُّ العربية أو يتعاطف معها؟).

وعوضَ أن يتّخذوا من العربية حليفَهم وظهيرَهم الأولَ في نضالهم من أجل الثقافة واللغة الأمازيغيّتن كما هو المفترَضُ والمَظنون، هاهم يأبون إلا أن يُنفّذوا تعاليم السياسة اللغوية الأجنبية القائمة على ضرب الأجنحة الوطنية الداخلية بعضها ببعض، وتوجيه أسلحة كلِّ طائفة إلى صدور الأخرى، حتى تخوض كلُّ لغات الشعوب الإسلامية حروباً طاحنة ضدَّ العربية، ويُنسَى العدوُّ الحقيقيُّ المشترَك، فيَخلو له المجالُ لتنفيذ مخطّطه الرهيب وهو إفناءُ الأطراف المُتصارعة وإنهاك قُواها، واستنزاف طاقاتها جميعها، لينتهي النصرُ لصالحها والهزيمةُ للإخوة الأعداء بلا استثناء.

أنا لا أفهم لماذا يحاول بعضُ غُلاة الأمازيغية، ولا أقول الأمازيغ، لأننا كلنا شُركاءُ في الدم الأمازيغي والثقافة الأمازيغية، الاحتماءَ بالفرنكفونية والاستقواءَ بها لضرب العربية، بينما المفروض أن يَضمّوا جهودهم إلى المدافعين عن العربية، لغةِ الحضارة الإسلامية التي ينتمون إليها، ضد لغةِ الهيمنة الثقافية الأجنبية الحقيقية.

ولا أفهم لماذا يلجأ الأستاذ شفيق ومَن يُشارِكه الإفراطَ في الغُلوّ، إلى وصف الفصحى بالميّتة وهم بها، كلَّ يوم وحين، يكتُبون ويقرأون ويؤلفون وينشرون ويخطبون ويحاضرون ويناقشون ويجادلون. فإذا كانوا متأكِّدين من موتها وانقراضها حقّاً، فليَرفعوها أيديَهُم ويُمسِكوا ألسِنتَهُم وأقلامَهم عنها، وليتركوها لناسِها وأهلها ومَن لهم غيرةٌ عليها. وليخوضوا في شأن ما يُحبون ويعشقون، وليكتبوا ويقرأوا باللغة الحيّة التي يرونها مناسبة، والأمازيغية في مقدمتها. فكما لا إكراهَ في الدين، فلا إكراهَ في اللغة.

أما السيد شفيق ومن وراءه على هذا الدرب الشائك، وهذا الضرب من «النضال» المعوجّ، فليُواصِلوا طريقَهم إلى النهاية، وليُمعِنُوا في سلِّ الخناجر وشَحذِ السكاكين، وليقطعوا بها كلّ الأرحام، ويمزِّقوا ما بقي من خيوط الوصل والتعايُش السلمي بين مكوِّنات المجتمع الواحد الذي مضت عليه قرونٌ طوالٌ، وهو في توادُد وتراحُم بين سائر مكوّناته، وصَهرٍ للدماء، وتعاضُد وتساكُنٍ وتلاحُم بين كل فئاته. وليهنأ المتربِّصُ الفرنكفوني بنجاحه وتفوقه المستمرّ في اختراق صفوفنا، وتمزيق شملنا، وإلهائنا بالحروب التي يَتفنَّن في اشتقاقها وتوليدها … ولسنا في المغرب، خارجين عن سياق ما يعيشه العالَم العربي والإسلامي من فِتَنٍ وتمزُّق وتشرذُم.

أما أنا فلن أخوض في المناقشة العقيمة حول حياة الفصحى أو موتها، لأن الذي لا يريد أن يُبصِر الشمس وهي في رَأْد الضُّحى، ويأبى إلا أن يقول عن ضوء النهار إنها ظلمةٌ حالِكة، لا يمكن الدخول معه في أي جدال أو نقاش. إنهم يعلمون أن الحقَّ حقَّ، ولكنهم يأبون إلا أن يشهدوا بالباطل.

وليسَ يَصِحُّ في الأَذهان شيءٌ *** إذا احتاجَ النهارُ إلى دَليلِ

ولا أريد أن أقول أكثر من هذا، وإن كان في جعبتي الكثيرُ مما يُقال، حفاظاً على لمِّ الشمل ووحدة الأمة التي لا بد لكل صادقٍ فيها أن يعتزّ باللغة المشتركة التي تجمع أبناءَها وشعوبَها وتوحّد مشاعرَهم وتقرِّب بين ثقافاتَهم، مهما اختلفت لغاتُهم المحلّية ولهجاتُهم الإقليمية. والحفاظُ على لغة الأمة لا يتناقض أبداً ولا يتعارض مع الحفاظ على لغات كل الشعوب الإسلامية المكوِّنة لها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *