منتدى العمق

التربية المتاحة على الفوضى المستباحة

حين يجلس مواطن في مقهى عمومي يتواجد بمفترق الطّرق وبيده (سبسي) طويل و يبدأ في تدخين الكيف (شقف) بعد (شقف) ويُناول أصدقائه ليدخّنوا هم كذلك (شقف) بعد (شقف)، و ذلك على مرأى من الذين يمرّون من الطّريق العمومي، و قد يكون من بين هؤلاء المارّة المواطن العادي أو عون السّلطة أو رجل الأمن أو إمام المسجد، و يتكرّر هذا المشهد مرارا و تكرارا إلى درجة الاعتقاد أنّ استهلاك المخدّرات لم يعد مخالفا للقانون.

و حين يتجوّل أصحاب الدّراجات الناريّة في الشّوارع و بين الأزقّة بطريقة و بسرعة مثيرة و بدون خوذة واقية، و يستعملون درّاجاتهم للتحرّش بالتّلميذات أمام الثّانويّات و داخل الأحياء السّكنيّة و يستعملونها كذلك وسيلة لنقل خليلاتهم، و حين تستغلّ نادلة عملها لاحتراف الدّعارة موازاة أو تحت غطاء عملها في المقهى مع الزبائن أو مع غيرهم، و حين يتمّ ذلك في غالب الأمر أمام الملأ(على عينك يا بن عدّي) دون تحفّظ و دون أن يوقفهم أحد؛ أوقن أن علاقتنا كمواطنين مع القانون من جهة، و طريقة السّلطات في التّفاعل مع من يخرقه من جهة أخرى ليست على ما يرام، و أنّ تحسّن هذه العلاقة لا يبدو لها طيف في الأفق القريب.

حين يرى المواطن إنبات الأحياء العشوائيّة على الأراضي السّلاليّة، تحت أنظار النّواب السّلاليين و التّرابيين، بل و تتسرّب العشوائيّة إلى تجزئة سكنيّة قانونيّة في شكل إضافة حجرة أو طابق أو طابقين في ضوء الشّمس أو تحت نور القمر، في تحدّ سافر للقانون و المنطق و حسن الجوار، و ليس في غفلة عن عيون لا تنام عن حراسة الفضاء العام. حين يشهد المواطن كلّ ذلك أو يساهم فيه بدون عتاب أو عقاب أو محاسبة من أحد؛ فهو يمارس تمرينا و تدريبا على الفوضى بشقّيه النظري و الميداني برعاية المجتمع.

حين يتكدّس التلاميذ داخل سيّارة النّقل المدرسي إلى درجة التصاق الأجساد بعضها ببعض، حيث يتجاوز عدد الركّاب عدد مقاعد السيّارة دون امتعاض من أولياء الأمور، و حين يلاحظ رجال الغد أنّ السيّارة تمرّ أما رجال الأمن من كلّ الأنواع خارج و داخل المدينة دون أن تثير أحدا، و حين تنزل هذه الأمّة من الصّغار و اليافعين أمام السيّد المدير، مربّي الأجيال، دون أن يبدو عليه الإحساس بالحرج (بوجهه أحمر)، و حين يتكرّر هذا المشهد خمس أو ست مرّات في الأسبوع و تسعة أو عشرة أشهر في السّنة، حينئذ يكون المجتمع الأستاذ بصدد تكوين جيل من المواطنين في مسالك الفوضى و اللّاقانون.

حين يضطرّ الأطفال المتوجّهون إلى المدرسة إلى المخاطرة بأرواحهم و مزاحمة السيّارات و الدرّاجات و الشّاحنات بالسّير وسط الطّريق؛ فقط لأنّ قارعة الطّريق الخاصّة بالرّاجلين احتّلتها المطاعم و المحلّات الصّناعيّة و التّجاريّة، و محلّات الخدمات و المقاهي التي تنتشر مثل الفطر، و حين يلاحظ هؤلاء التّلاميذ أن هذا المشهد ثابت لم يتغيّر منذ السّنة الماضيّة و التي قبلها بل هو كذلك منذ زمان، و لا أحد تراجع عن احتلال الملك العمومي من تلقاء نفسه أو بعد ردع السّلطات المختصّة، و لا إجماع حصل من المواطنين على مقاطعة مثل تلك المحلّات حين يمكنهم ذلك من باب تغيير المنكر، حينئذ لن يُفهم من الرّسالة غير أنّ الدّولة و المجتمع يربّيان هؤلاء الصّغار منذ نعومة أظافرهم على عدم وضع أيّ اعتبار للقانون.

حين يحتضن سكّان الحيّ مجرما لإخفائه عن الشّرطة التي تطارده، و قد تلجأ الأسرة و الجيران إلى الشّغب من أجل تهريبه للإفلات من العقاب جزاء على ما اقترفت يداه من سرقة و اعتداء و سطو و اغتصاب، و حين يجد المجرم من ينافح عنه و يبرّر له، و يقبّل الرّؤوس و الأيادي و الأرجل نيّابة عنه، لاستعطاف ضحاياه و ذويهم، و يجد من يؤثّر فيهم ليتنازلوا عن حقّهم، و ينجح في التّخفيف من العقوبة فيخرج سريعا إلى الشّارع ليقترف ما تعوّد فعله، حتّى إذا وقع في قبضة العدالة من جديد، وجد من يتوسّط له، و وجد من يستجيب لاستعطافه، و هكذا يتكرّر هذا المسلسل عبر الزّمان و المكان . حين لا يجد المجتمع حرجا في كلّ ذلك بل يراه و اجبا تقتضيه علاقات الدّم و القبيلة؛ فإنّه يطبّع مع الجنوح و يربّي الأحداث و الكبار على الفوضى.

و حين يستوعب المجتمع الاختلاسات الكبرى دون أن يُذكر أصحابها بالاسم و إن ذُكروا فعلى استحياء، على الرّغم من أثرها البالغ على المستقبل المادّي و الاجتماعي لشريحة عريضة من المجتمع و الذي سيستمرّ على مدى سنوات، فإنّه يجعل من أبطالها، الذي يتمثّلون منهجا لحياتهم شعار ( كُنْ سبع و كُلني)، المثل الأعلى للشّباب و الكهول إن استطاعوا إلى ذلك سبيلا.

أمّا الاحتفاء الإعلامي بإطلاق سراح فنّان أمضى عقوبة حبسيّة بسبب جريمة اغتصاب فيدخل في التربيّة على اللّامعقول؛ باعتبار الفنّانين قدوة للكثير من المعجبين، و إذا كانت كثير من المهن تشترط خلوّ ملفّ المرشّح من السّوابق العدليّة (الوسخ) ؛ فما عساها تكون الرسالة المتوخاة من هذا الاحتفاء غير: ( الوسخ ) تجبّه الشّهرة التي قبله؟

تلكم فقط أمثلة لمشاهد لا حصر لها من مظاهر يمجّها الذّوق قبل القانون، سكت عنها من سكت؛ رهبا أو لحاجة في نفسه، و دافع عنها من تدرّ عليه بعض الدّخل. فإذا كانت التّربية على المواطنة المدرجة في المقرّرات الدّراسية تبني، فإنّ التّربية على الفوضى المعايشة في الشّارع و المتاحة في المعيش اليومي بوسائل إيضاح لا تخطئها الألباب تهدم و تجعل من هذا القانون المُجمع عليه و الجميل جمال قوس قزح غير ذي معنى.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *