منتدى العمق

لا يا برشيد وألف لا

لا يا أستاذ،لا قياس مع وجود الفارق. وليس الليل كالنهار.

ربما مع هذا الزمن الذي يعرف انسدادا في الآفاق وانسحاب السرديات الكبرى إلى الهامش، إذ لم تعد قادرة على الإشتغال تحت أي وعد جميل ،أو أن تقدم إجابات مطلقة ونهائية وأن تبشيرنا بجنّات فوق الأرض .في هذا الخضم سقطت البوصلات وتاه الكثيرون في صحاري الخواء والفراغ،واتسعت رقعة العدم ،وظهرت لخبطات عارمة اكتسحت فئات عريضة وواسعة من المفكرين والمثقفين إلى درجة الهذيان ،وفي كل مرة يخرج علينا أحدهم بكلام غير موزون ،هو شظايا لذات منكسرة ،أكثر مما هو فكر مبني ومؤسس، هو متعجل غير متأني ومتروي.ليس آخرهم ما باح به وجاء على لسان المسرحي السيد عبد الكريم برشيد في استجواب له مع الجريدة المغربية “المساء” العدد رقم 3487 الصفحة الأخيرة على عمود كرسي الإعتراف.

ففي حديثه عن المقاومة أتانا الكاتب متعطلا – ربما على ظهر سلحفاة – بحل سحري لجميع أشكال المقاومات للإستعمار كما للصراعات الإجتماعية. ألا وهو تجربة الهند وغاندي على رأسها ضد الإستعمار الأنجليزي – حبذ لو أن المسرحي برشيد أتحفنا بنص مسرحي ملحمي عن هذه التجربة الفريدة من نوعها – .أن يكون برشيد مع فلسفة غاندي أو سياسته فهذا أمر يهمه هو و لوحده ولا أحد سيجادله في ذلك مادام هذا من اختياراته الحرة وقناعته الفردية أو ربما حتى فلسفته في الحياة .

إن تجربة غاندي المنفردة نتاج لعدة عوامل متداخلة ومرحلة تاريخية دقيقة وخصوصيات الهند. فلا يمكن اسقاطها على تجارب الشعوب الأخرى وإن كان من الممكن والمهم الاستفادة منها بعد دراستها دراسة متأنية ، وكذا التجربة والثقافة الهندية كافة، التي نجهلها ولا نعرف عنها إلا النتف. لكن أن يختصر الكاتب مرحلة تاريخية كلها، أعني الممتدة من بداية الستينات إلى أواخر التسعينات من تاريخ المغرب ،أي ما يعرف بمرحلة المخاض وبناء أسس الدولة الوطنية الحديثة، في :” سوء فهم أو سوء تفاهم ” كما ورد على لسان المسرحي، ربما سينقصنا غير قليل من الذكاء والمعرفة بالتاريخ الحي لبلدنا لنصدق هذا الكلام .إذ اعتبار الصراع الذي كان قائما بين القوى الوطنية والسلطة المخزنية مجرد “سوء فهم ” ليس إلا نتاج عدم الفهم أو ربما قراءة سطحية متعجلة جديدة للأحداث ،لم نسمع بها قط حتى عند أعتى الديماغوجيين والمحرفين للتاريخ . لا أظن يا أستاذ أن الإطاحة بحكومة المرحوم عبد الله إبراهيم كان مجرد” سوء فهم أو عدم تفاهم “.ما أظن أن الإعتقالات التي زجت بآلاف المناضلين وأسرهم وحتى غير المناضلين في السجون كانت مجرد” سوء فهم “.

ما أظن أن انتفاضة 23 مارس 1965 كانت مجرد “سوء تفاهم “.لا أظن أن ما وقع في الدار البيضاء في 20 يونيو سنة 1981 كان مجرد “سوء فهم “.لا أعتقد أن ما وقع في يناير سنة 1984 في عدة مدن وجامعات مغربية كان فقط “سوء تفاهم ” واللائحة طويلة.عن أي “سوء فهم” تتحدث يا أستاذ ؟ ربما كان ينقصنا فكرك النير أو استدعاء تجربة غاندي كي نتفادى كلما وقع ؟ و ربما أتيت متأخرا أو كانت تنقصك الشجاعة كي تصلح ذات البين ؟ أو ربما كانت تنقصنا بعض المبادرات من أصحاب النوايا الحسنة كي لا نسقط فيما سقطنا فيه مما أسماه المسرحي :”بالأضرار الكثيرة التي ألحقت بصورة المغرب و العقود الطويلة من الزمن التي ضاعت وهدرت عبثا “.أو ربما كانت تنقصنا إشارات فقط كي نلعن الشيطان جميعا، وبعدها تقديم الذبيحة و القرابين على أعتاب الأولياء الصالحين من أمثال مولاي إدريس أو مولاي علي الشريف أو حتى الشيخ الكامل ؟ أو ربما تبادل الزيارات والهدايا من قوالب السكر ؟،أو أداء القسم من جميع أ طراف الصراع على المصحف الكريم ؟ أو باختصار” دير النية أنعس مع الحية “، حتى نضع حدا للصراعات القائمة آنذاك بين السلطة المخزنية والقوى الوطنية أو ما أسماه السيد برشيد “بسوء فهم “؟.

أما فيما يخص المثل الذي أورده السيد برشيد حول التجربة الأوربية ونتائجها والتجربة الفرنسية التي خصها بالذكر ما أظن أن المثل مكانه هنا أو في صالح أفكار المسرحي برشيد ،بل تماما هي ضد كل ما أتى به،وضد حتى تجربة غاندي السلمية، والتاريخ واضح ،لذلك لا يحتاج لأي قراءة مغايرة أو تأويل ما.فما شهدته أوروبا من عنف وصراعات وثورات وحروب يناقض ويقوض بالتمام والكمال كل ما راح إليه الأستاذ في كلامه من سلم وتفاهم بالتي هي أحسن.

وإن كانت تجربة غاندي هي الحل لكل الصراعات ولتصفية الإستعمار فالمرجو من أستاذنا المحترم أن يقدم هذه الوصفة السحرية ولا يبخل على الشعب الفلسطيني الذي لا زال يرزح تحت الاستيطان الصهيوني ولن يجد الفلسطينيون أحسن مما سيقدمه السيد برشيد كحل سحري وإن كان ذلك في نص وقالب مسرحي سيكون أكثر أهمية وفعالية.

إن الذي أضر بالبلاد وسمعته وبشعبه يا أستاذ هو: الإستبداد والفساد المستشري ،هي السياسات الخرقاء اللاشعبية وإتباع بالحرف وبالنقطة أوامر صندوق النقد الدولي وأخواته من المؤسسات مصاصي دماء الشعوب لدرجت أوصلت البلاد والعباد إلى السكتة القلبية وهذا ما اعترفت به أعلى سلطة سياسية في البلاد في التسعينات.

إن الذي دفع ببعض المناضلين آنذاك لحمل السلاح هو ذلك الوضع الذي جعل الديمقراطية مستحيلة ،هي السياسات التي زجت بالناس في السجون لمجرد قول كلمة لا ،هم من أمطروا الناس بوابل من الرصاص في تظاهرات سلمية ،هم من أنجزوا مقبرة جماعية في الدار البيضاء لمواطنين عزل قالوا فقط لا للذل نعم للعيش الكريم.هم من زجوا بآلاف التلاميذ والطلبة في السجون سنة 1984.هم من جعلوا غالبية الشعب ترزح تحت عتبة الفقر والأمية والتهميش ،هم من صنعوا أحزمة البؤس ومدن الصفيح ،هم من حولوا المغرب إلى أسواق نخاسة حديثة وجعلوا بنات ونساء هذا البلد يتحولن إلى لحم طازج حلو معروض للإستهلاك المحلي أو حتى قابل للتصدير.

نعم كانت هناك أخطاء وتجاوزات وربما ضباب في الرؤى وعدم تقييم دقيق للمرحلة والمعطيات داخل التجربة النضالية اليسارية – ومن لا يمارس هو وحده من لا يخطأ-.لكن أن تصل بك الوقاحة يا أستاذ حد التساؤل بصيغة التأكيد والإثبات : ” نتسائل ما الفرق بين هؤلاء – يقصد الضلاميين والإرهابيين اليوم – وأولئك الذين كانوا يحاربون بالسلاح – يقصد الدين حملوا السلاح ضد النظام المخزني في مرحلة الستينات وبداية السبعينات – اعتقادا منهم أنهم يدافعون عن القيم الجميلة والنبيلة ؟”.

فهذا مالا يقبل منك أو من غيرك، لسبب بسيط هو أنه لا مجال للمقارنة وكما قيل قديما “لا قياس مع وجود الفارق”.فالمناضلين الذين حملوا السلاح آنذاك لم يكفروا المجتمع ولم يقتلوا الأبرياء ولم يكن في مخططاتهم استهداف المواطنين أو اغتيال المثقفين أو الأشخاص المدنيين أو تفجيرات الأماكن العمومية وكذا الخصوصية بقدر ما كان هدفهم السلطة والآلة القمعية للدولة في ظل صراع واضح المعالم بين القوى الوطنية التواقة للتحرر والإنعتاق والديمقراطية ،من جهة ،والمؤسسة المخزنية التي كانت تمثل المشروع المضاد لا غير.

عفوا يا أستاذ إن أردت أن ترقص فارقص، لكن خارج جراحنا، لكن ليس فوق جثث آبائنا ومناضلين ضحوا بالغالي والنفيس.لك من المنصات والخشابات ما يكفي لتفعل ذلك.إن التجربة التي تحدثت عنها والمعول بيدك ،هي تجربة نضالية تاريخية ،لها ما لها وعليها ما عليها ،نحن لا نقدسها ولا نبخسها ، هي جزء منا من تاريخنا الحديث ومن ذاكرتنا المعاصرة ،من أحلامنا وأوهامنا ،هي لنا بإيجابياتها وسلبياتها رغم أن الكثير حتى من الذين ساهموا في هذه التجربة مع الأسف تنكروا لها لأسباب يعرفونها هم كما نعرفها نحن .وإن كان من تقييم و ودراسة لهذه التجربة والمرحلة ككل فلتكن بموضوعية ورصانة خارج منطق جلد الذات أو التبخيس أو تبرأت الذمة أو نرجسية قاتلة أو الحديث من فوق الأبراج العالية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *