وجهة نظر

حكم محكمة العدل الأوروبية وقرار الحكومة المغربية – قرار الحسم –

قرار الحكومة المغربية، رفض إبرام أي اتفاق دولي يمس بالسيادة الوطنية أو يستثني الأقاليم الجنوبية من كامل التراب الوطني، بما في ذلك اتفاق الصيد البحري مع الاتحاد الأوربي، قرار أعاد للسلطة التنفيذية هيبتها ومصداقيتها وأثبتت للرأي العام الوطني والإقليمي والدولي أنها حكومة مسؤولة، وبأن قضية الصحراء المغربية هي قضية ملك وشعب وحكومة وبأنها قضية محسومة منذ المسيرة الخضراء رغم صدمات الأحكام القانونية المسيسة الأخيرة كتلك اتخذتها محكمة جنوب إفريقيا بمصادرة وحجز شحنة الفوسفاط المغربي شهر ماي الماضي بدعوى انها تعود الى منطقة الصحراء، أو حكم محكمة العدل الأوروبية استثناء المناطق الجنوبية المغربية من اتفاق الصيد بين الاتحاد الأوربي، أحكام تبرهن على أن هناك خلالا ما في تدبير الدبلوماسية المغربية لملف الصحراء، وتحمل بين طياتها عدة مخاطر من ناحية القانون الدولي ليس في صالح الوحدة الترابية. وأمام هذا المنعطف كان منتظرا أن ترفض الحكومة المغربية حكم محكمة العدل الأوروبية جملة وتفصيلا بأمر من صاحب الجلالة التي يتابع تطور الملف بكل تفاصيله رغم العملية الجراحية التي خضع لها وكللت –والحمد لله- بالنجاح.

سياق قرار محكمة العدل الأوروبية المعارض لسيادة المغرب على صحرائه: تزامن قرار محكمة العدل الأوروبية مع العودة القوية للمغرب الى الاتحاد الإفريقي بفضل السياسة الحكيمة والإستراتيجية التي يتبعها جلالة الملك محمد السادس والتي أزعجت كثيرا من القوى ليس بإفريقيا فقط حتى داخل الاتحاد الاوروبي، اضافة الى انضمام المغرب للاتحاد الإفريقي وإلى المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا- سيداو- والاستثمارات المهمة التي قام بها المغرب بالمناطق الجنوبية أكثر من 14 مليار دولار أو بالقارة الافريقية على حساب عدة شركات أوروبية. دون نسيان توقيع المغرب والاتحاد الأوروبي شهر يناير الماضي وثيقة تعزز الشراكة بينهما على أساس الاتفاق الفلاحي، وإعلان الحكومة الاسبانية شهر فبراير الماضي حق المغرب في استغلال موارده في مياه الصحراء، وترخيص المغرب لعدة شركات عملاقة في التنقيب عن البترول في سواحل طرفاية وسيدي إفني وطان طان ، والغريب ان تصدر هاته الأحكام ضد المغرب من محكمة العدل الأوروبية شهورا على إعادة توقيع بروتوكول جديد للصيد البحري يوم 14 يوليوز القادم بين المملكة المغربية والاتحاد الأوروبي.

استثناء المناطق الجنوبية من وثيقة الاتفاق الأوروبي المغرب مناورة أوروبية: قرار الاتحاد الأوروبي كان منتظرا منذ عودة المغرب الى العمق الإفريقي وبناءه شراكات اقتصادية مع عدد من شركات الدول الافريقية ، والعودة إلى المجموعة الاقتصادية لدول غرب افريقيا- سيدياو- التي ستضر بمصالح بعض اللوبيات الأوروبية والجزائرية وستشدد الخناق على جبهة البوليساريو على كل الجبهات الإقليمية والدولية،لذلك كان منتظرا من رد فعل الدبلوماسية الجزائرية خصوصا داخل الفضاء الأوروبي الشريك الاقتصادي الأول للمغرب لحثه بعدم إبرام أي اتفاق مع المغرب وفي أي مجال لا يستثني المناطق الجنوبية المغربية وفي مقدمتها مجال الصيد البحري بهدف المس بوحدة المغرب وإثبات هاته المناطق كمناطق متنازع عليها بمفهوم القانون الدولي ومحاولة إرجاع البوليساريو للواجهة ومنحه الشرعية وهو ما أعاد ثروات الصحراء المغربية الى حرب شكلها اقتصادي وعمقها جيو سياسي، وقد اعتقد الاتحاد الأوروبي أن المغرب سيقبل هذا الاتفاق الذي يمس مبدأ سيادة المغرب على مناطقه الجنوبية لكن صرامة موقف المغرب الرافض لأي مس بوحدته الترابية سترغم دول الاتحاد الأوروبي إعادة النظر في مفهوم الشراكة والتعاون مع المغرب كدولة مستقلة ولها سيادة على كامل ترابها من الشمال الى الجنوب.

مضمون حكم محكمة العدل الدولية: صدر حكم محكمة العدل الأوروبية الأخير من نفس المحكمة التي أصدرت الحكم الابتدائي المتعلق التزام الاتحاد الأوروبي بالقانون الدولي واعتبار أراضي المنطقة الجنوبية مناطق متنازع عليها، مبررة حكمها على كون المياه المحيطة بأراضي الصحراء يجب أن تستثنى من اتفاق الصيد المبرم بين المغرب والاتحاد الأوروبي.

حكم صادم تعاملت معه الحكومة المغربية ومؤسساتها الإعلامية بازدواجية في الخطاب متجاهلة مسؤولية الدبلوماسية المغربية عن ما وقع وما يقع للوحدة الترابية في سياق إقليمي ودولي مضطرب ،دبلوماسية تدبر ملف الصحراء المغربية المعقد بمنهجية ردود الفعل بدل المنهجية الاستباقية المبنية على اتخاذ القرارات والمبادرات، حكم أكد سذاجة الدبلوماسية المغربية وثقتها العمياء في خطاب الدبلوماسية الأوروبية، مقابل العودة القوية للدبلوماسية الجزائرية ولجبهة البوليساريو الى الواجهة الإقليمية والدولية عبر خوض حروب قانونية وسياسية توظف فيها أوراق ثروات المناطق الجنوبية المغربية في أبعادها الاقتصادية والحقوقية بعد فشلهما في كل مناوراتهما ومخططاتهما الدبلوماسية ضد المغرب، إنها حرب جديدة ذات طابع استنزافي ضد وحدة المغرب لا تقوده الجزائر لوحدها بل عدة قوى قارية إفريقية وأوروبية مست مصالحها الاقتصادية والجيوسياسية بعد عودة المغرب السياسي والاقتصادي للعمق الإفريقي.

رهانات الجزائر وجبهة البوليساريو على الحكم: تثبت كل المؤشرات بأن الجزائر وصنيعتها جبهة البوليساريو قد غيرتا آليات المواجهة مع المغرب في المحافل الإقليمية والدولية، واختارتا المواجهة القانونية المسيسة برهان إعطاء الشرعية والمشروعية لكيان وهمي متواجد على ارض الجزائر انطلاقا من استغلال أحكام قضائية صادرة من محاكم قارية متعددة: افريقية أوروبية وأمريكية للطعن في سيادة المغرب على أراضيه الجنوبية التي حسم مصيرها بالنسبة للمغرب منذ مسيرة 1975. إنها آخر طلقات للنظام الجزائري الذي يحتضر وآخر صيحات لجبهة البوليساريو التي تتلاشى. وعليه، فاستغلال الجزائر هاته الأحكام الصادرة ضد المناطق المغربية الجنوبية ما هو إلا تكتيك جزائري لتقوية ولتعزيز الملف الانفصالي في المعارك الدولية واستغلالها ضد المغرب داخل المحافل الدولية والافريقية وان كان الحكم الصادر عن المحكمة الأوروبية ليس له أي سند قانوني لاعتبار بسيط هو ان البوليساريو كيان موجود على التراب الجزائري وفاقد لكل مقومات الدولة ولا يمثل سكان الصحراء.

صرامة وحق المغرب في رفض حكم محكمة العدل الأوروبية: رد الحكومة المغربية على هذا القرار كان حاسما وصارما حسب تصريح الناطق الرسمي باسم الحكومة المغربية الذي جاء فيه: “إذا ما تم المساس بالثوابت فالمغرب لن يقبل إبرام أو الاستمرار في أي اتفاق، بما فيه الاتفاق الحالي”، مؤكدا أيضا أن “المغرب لن يوقع أي اتفاق إلا على أساس سيادته على كامل ترابه الوطني من طنجة إلى الكويرة”. وهذا عين العقل. لكن المطلوب من الحكومة ليس إصدار ردة فعل بل عليها اخذ العبرة من حكم محكمة العدل الأوروبية بخصوص اتفاق الصيد البحري المبرم بين المغرب والاتحاد الأوروبي، ومحاسبة الدبلوماسية المغربية وإرغامها بإعادة النظر جوهريا في آليات تدبير المفاوضات مع الاتحاد الأوروبي لكي لا يقع نفس الخطأ مستقبلا لان مثل هاته الأحكام الصادرة عن محكمة أوروبية يضعف كثيرا المفاوض المغربي ليس داخل الفضاء الأوروبي فقط، بل حتى داخل هيئة الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي وداخل الاتحاد الإفريقي.

الاتصال الملكي مع رئيس الحكومة كان هو الحاسم: اتصال جلالة الملك مع رئيس الحكومة -رغم العملية الجراحية-تؤكد أن ملك البلاد يتابع بدقة كل تطورات ملف الصحراء المغربية وخصوصا حكم المحكمة الأوروبية وعلاقاته مع تجديد اتفاق الصيد البحري مع الاتحاد الأوروبي. والأكيد أن قرار الحسم الصادر عن الحكومة كان وراءه جلالة الملك الذي تميز عهده بخطاب ومنهجية الحسم والصرامة والوضوح سواء في السياسة الداخلية أو السياسة الخارجية وبالخصوص في ملف الوحدة الترابية، لذلك ينتظر الرأي العام الوطني عودة جلالة الملك من فرنسا لأحداث زلزال آخر في وزارة الشؤون الخارجية والتعاون. لانه لا يعقل في الوقت التي يحقق فيه جلالة الملك انتصارات إستراتيجية بالعمق الإفريقي تحققه فيه الدبلوماسية المغربية انتكاسات بالعمق الأوروبي

تداعيات حكم محكمة العدل الأوروبية: قرار محكمة جنوب افريقيا ضد فوسفاط المغرب وقرار محكمة العدل الأوروبية ضد سيادة المغرب على مناطقه الجنوبية مؤشران على أن ملف الصحراء يمر من منعطف تاريخي وكما قال الباحث ادريس الكرواي لإحدى الاسبوعيات: “لقد دخلت قضية الصحراء المغربية منعطفا مصيريا حقيقيا من الصعب جدا التنبؤ بما ستؤول اليه مخرجات سياسية اقليميا ودوليا”.

لذلك يجب على الدبلوماسية المغربية الاعتراف بخطورة الحكم مستعدة- في نفس الوقت- لكل الاحتمالات ومع ضرورة اتخاذ مبادرات جريئة في إطار الحكم الذاتي “كإطار تفاوضي واحد ووحيد لكل مفاوضات ممكنة لأن المنظومة الدولية أهلته ليكون كذلك بفعل جديته ومصداقيته لكن متحلين في الآن نفسه بالحزم الثابت ميدانيا ودبلوماسيا، كما جاء في تصريح الكرواي الذي ذكرناه سابقا. وعليه، ونتيجة هذا المنعطف ونوعية الحرب الذي يخوضها اعداء الوحدة الترابية، اعتقد ان مواجهة هذا المنعطف تفرض على الدبلوماسية المغربية ترتيب أوراق دفاعها عن ثروات المناطق الجنوبية من المداخل التالية:

1- ضرورة تقوية الجبهة الداخلية والاستثمار في الموارد البشرية المؤهلة للترافع على ملف الصحراء خصوصا في الشق المتعلق بثروات المناطق الجنوبية لمحاصرة مغالطات الجزائر والبوليساريو داخل كل المحافل الإقليمية والقارية والدولية.

2-إشراك سكان المناطق الجنوبية المؤهلين في الترافع على السيادة المغربية وربط تنمية الأراضي الجنوبية بالديمقراطية وبحقوق الإنسان، والإسراع بتفعيل الجهوية المتقدمة بمنح الجهات صلاحياتها الذاتية والمنقولة والمشتركة كما ينص على ذلك دستور 2011.

3- رفض كل الاتفاقيات التي وقعت سابقا او ستوقع مستقبلا مع أي دولة أو أي تكتل او نظام اقليمي لا تعترف بسيادة المغرب على كل مناطقه الجنوبية

4- اتباع نهج سياسة العاهل المغربي في تدبير السياسة الخارجية المبني على البراغماتية والواقعية والصرامة والعلاقات الثنائية المبنية على المصالح المشتركة

5- تقوية الجبهة الداخلية أمنيا وعسكريا خصوصا المناطق المجاورة للجزائر.

6- ضمان الحد الاقصى من التنسيق بين ما تقوم به الدولة والأحزاب السياسية والنقابات والمجتمع الوطني والمؤسسات الدستورية حول ملف الصحراء خصوصا في الشق المتعلق بثروات المناطق الجنوبية

7- إعادة النظر في اللونيات التي تدافع عن مصالح المغرب خصوصا داخل الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية والدول الاسكندينافية والإفريقية.

بصفة عامة حكم محكمة العدل الدولية ستكون له عدة مخاطر على الوضع الجيو سياسي بالمنطقة في ظل الانسداد الاممي والتحول النوعي الافريقي والاروبي اتجاه ملف الصحراء عموما وثروات الصحراء خصوصا وعليه إذا لم يتم محاصرته دبلوماسيا، صحيح موقف الحكومة المغربية من هذا الحكم كان صارما وجريئا لكنه غير كافي بدون اتخاذ قرارات تستدعي إعادة النظر في كيفية تدبير الدولة للثروات الطبيعية بالصحراء المغربية لسد الطريق على أعداء المغرب الذين سيستغلون مثل هاته الأحكام كآلية قانونية لمنح شرعية لكيان وهمي موجود على التراب الجزائري يستغله النظام الجزائري المريض لتصدير أزماته الداخلية نحو الخارج

* أستاذ التعليم العالي جامعة محمد الخامس

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *