سياسة

حداد يزور أذربيجان مراقبا للانتخابات فيعود برسالة للمغاربة من باكو

بحر القزوين نافذة باكو، عاصمة أذربيجان على الثروة، على النفط الذي حول هذا الفضاء القوقازي إلى ناطحات سحاب تستمد رمزيتها من لهيب شعار البلاد، “النار الخالدة أو التي لا تنطفيء”.

والبحر يقي من رياح الفرس على الجنوب والتي أتى منها المد الصفوي الذي قضى على الشيرفانشاهية وإسلامها السني، كما هب منها قبله بقرون الفكر الزرادشتي.

فسيفساء مركبة من ترسبات الزرادشتية، والسنة والشيعة والمد التركي والتأثير الروسي والحداثة التي تؤثت فضاء ومعمار باكو بفخر وعنف رمزي قوي.

وأنت تتجول في المدينة العتيقة الشاهدة على مآثر الحكم الشيرفانشاهي وبقايا الحضور الصفوي الممجد للحرف والصوت والدلالة الباطنية، تكون قد سافرت بعيدا عن صراع القوالب المعمارية للمدينة الحديثة، حيث حب السوفيات للبنايات القاتمة والمملة في هندستها يقاوم معمار “أبراج اللهيب” الزرقاء المنتشية بصعودها اللامنتهي نحو سماء ازربيجان، أو ابداعات زها حديد التي صممت لمركب حيدر علياف للفن الحديث والذي يحتفل بدائرية وليونة الأشكال وكأنك أمام لوحة لسالفادور دالي، أو البنايات ذات اللون الأصفر الجميل وذات الإيحاءات الأوروبية والتي تضيء ليل شوارع باكو لتذكرهم بأهمية الحداثة رغم زحف ما بعد الحداثة (والتي تمثلها أبراج اللهب وتصميمات زارا حديد).

عاشت أذربيجان على وقع انتخابات انتهت باقتراع يوم 11 أبريل. حصل الرئيس إلهام علياف على %83 من الأصوات والمشاركة اقتربت من %75. انتخابات بدون ضجيج، ولا أوراق متناثرة ولا عنف ولا صور ولا شيء يذكر. في المغرب ما نلوّث به الفضاء من أجل السياسة والبرلمان قد يصدم الأزربيدجانيين. شوارع باكو نظيفة، أنيقة، خالية من عنف الباعة واللصوص والمتحرشين والمتجولين والشباب المنتشي بفرحة أوراق يرمونها وكأنها لعب في سماء الانتخابات كاحتفالية جماعية لا يصدقها أحد.

الشعب الأذربيجاني لطيف وكريم. يذكرك بثقافة المغاربة الحاتمية. ولكنهم يحترمون المرأة ولا يتحرشون بها. ويفتخرون بفضاءاتهم، لهذا يحرسون على نظافتها؛ الانتخابات تنظمها وتراقبها النساء؛ الكل متعلم ولا يحتاجون لرموز للتصويت؛ هذا هو الإرث الذي خلفه السوفيات: النظام والتربية واحترام المرأة.

لكن الأذربيجانيين يفتخرون باستقلالهم. بعد الحكم الصفوي وبعده الروسي القيصري وبعده السوفياتي (قوس أذربيجان المستقلة الذي فتح في 1918 سرعان ما أغلقته فيالق الجيش الأحمر السوفياتي التي غزت البلاد في 1920)، هاهي البلاد تنعم بالاستقلال والرموز الوطنية من نشيد وعلم وعملة ومآثر ورموز الحداثة الأزرية شاهد على ذلك.

ما عدا البحر فالجيران مصدر قلق وتعب. إيران هو النموذج الذي لا يجب أن يحتذى به من حيث التدين وقمع النساء والتطرف في التشيع، يقول الأذربيجانيون. وروسيا ساعدت أرمينيا في حربها ضد أذربيجان ولا تنظر بعين الرضا لانفتاح أذربيجان على الغرب. وأرمينيا عدو لذوذ كما سنرى أسفله. تركيا فقط هي من يعطف على أذربيجان ويتضامن معها ولكن الحدود بين البلدين لا تتعدي ثلاثة عشر كيلومترا وتقع هذه الحدود في إقليم معزول عن باقي التراب الوطني.

ومع ذلك تبقى تركيا النموذج بالنسبة للكثير. فاللغة الأذربيجانية قريبة من التركية بشكل كبير. لهذا فتأثير تركيا يبقى قويا. سائق سيارتنا قال لي بأن أردوغان هو قدوة له ولكثير ممن يعرفهم. وعندما قلت له بأنه قوى من سلطاته وضيق الخناق على الصحافة وحرية التعبير وزج بالآلاف في السجون في إطار تطهير من سماهم بالمتآمرين، قال لي بأن هذا بالضبط هو ما يستهويه عند رجل تركيا القوي.

الصدمة الكبرى لأذربيجان هي ناكورنو كاراباخ… زرت بمعية فريقي من مراقبي الانتخابات المكون من رومانية وكامبودي ويوناني مكتبا للتصويت في أحد المساكن خارج باكو التي بنتها الحكومة لإعادة إسكان أكثر من مليون أذربيجاني فروا من جحيم التطهير العرقي الذي قامت به المليشيات الأرمينية بمساعدة القوات الحكومية الأرمنية والروسية (حسب أقوال الأذربيجانيين) خلال حرب 1992-1994. وجهنا لهم أسئلة حول الانتخابات، حول إقامتهم وحول التصويت. حين سألتهم عن ذاكرة اللجوء والفرار من كاراباخ اغرورقت عيني المترجمة وكفت عن الكلام. التفت إلى اللجنة الساهرة على الانتخابات فرأيت الدموع تنهمر على خدود كل النسوة، بينما ارتسم على وجوه الرجال الأسى ونذوب الصدمة وبدوا وكأنهم يتمنون لو بكوا كذلك لإخراج شذرات من الجرح الدي ينخر الأجساد والنفوس.

بعد انهيار الاتحاد السوفياتي أعلنت أذربيجان استقلالها وكذا أرمينيا، ولكن هذه الأخيرة بقيت تدور في فلك روسيا الاتحادية. إقليم ناكورنو كاراباخ تسكنه أغلبية أرمينية وأقلية أزيرية ولكنه بحكم التاريخ والجغرافيا وقرارات الأمم المتحدة (التي أتت فيما بعد) هو إقليم أذربيجاني. خاضت أرمينيا حربا ضد أذربيجان بمساعدة ميليشيات أرمينية محلية (وبمساعدة قوات روسية حسب العديد من التقارير) فانتصرت لاستقلال ناكورنو كاراباخ عن أذربيجان والتأسيس لجمهورية لم تعترف بها إلا أرمينيا. الحرب خلفت ويلات عدة منها تطهير عرقي ضد الأزيريين يصفه البعض بالإبادة وتهجير أكثر من مليون أزيري خارج الإقليم نحو أذربيجان.

كاراباخ الجرح الغائر في نفوس الأذربيجانيين، الألم الذي لا يذكر. المأساة وراء الابتسامة التي لا تفارق محيا السائرين بفخر في شوارع باكو الجميلة. كاراباخ الألم، كاراباخ الحزن، كاراباخ الذاكرة الموشومة بالعنف والقتل والتهجير.

شوارع باكو آمنة، مسالمة. كم تمنيت لو كانت سلا والدار البيضاء ومراكش وفاس مثل باكو من حيث الأمن والأمان؛ هنا لا جريمة، ولا شباب مقرقب يحمل السيوف ويعربد، يأكل الغلة ويسب الملة، ولا نساء يهربن ويختفين عن الأنظار بعيدا عن تسلط الرجال وتحرشهم كما في الشارع المغربي.

يسألونك في المتاجر والمطاعم وسيارات الأجرة والفنادق ومراكز التصويت من أين أنت؟ حين تقول بأنك مغربي يفرحون بشكل كبير؛ فهم سمعوا عن الرباط وكازابلانكا ومراكش؛ والمغرب هو إما مراكش أو موروكو. إحدى المترجمات قالت إن حلمها بعد زواجها في الصيف هو قضاء شهر العسل في المغرب. المغرب بالنسبة لهم قصة شعب مسلم، عربي، عريق التاريخ والثقافة وهذا يجعلهم يحلمون بزيارته.

زرت مسجد حيدر علياف كإحدى معالم أذربيجان الحديثة؛ انبهرت بالعمران ومعالم الأسلوب التركي الفارسي في بناء المساجد؛ ولكن ما أثار دهشتي هو عدم وجود زوار أو مصلين كثر؛ التدين لا يعني الحجاب والجري نحو المساجد ومظاهر التدين التي نشهدها في بلدان عربية وإسلامية؛ التدين عند الأذربيجانيين معاملة واحترام وأمور شخصية؛ حين سألت مجموعة من المرافقين هل يصومون رمضان: الكثير أجاب بالإيجاب ولكن البعض قال بأنه لا يصوم ولم تبدو على أي من الذين يصومون أي علامة للرفض أو التذمر.

لنعد إلى الانتخابات وفوز إلهام علياف. الرئيس له شعبية كبيرة والكثير ممن سألتهم قالوا بأن مستوى البطالة لا يتعدى ٪5‏ والكل يعيش في أمن وأمان والجريمة بلغت أدنى مستوى لها في السنوات الأخيرة والبلاد تتطور ومستوى المعيشة يرتفع والبلاد تعرف نهضة عمرانية لا مثيل لها في القوقاز، “من تريدون أن نصوت عليه غير علياف مهندس نهضة أذربيجان الحديثة”، يقول الكثير في شوارع باكو.

المعارضون يقولون بأن حكم علياف هو حكم عائلة شبه مالكة، حيث حكم أبوه البلاد منذ الزمن الشيوعي وبعد الاستقلال في 1991 حتى 2003 وبعدها تولى زمام الأمور ابنه إلهام الذي عين زوجته مؤخرا نائبة له وهو بصدد تحضير ابنه لخلافته من بعده. الدستور لا يحدد عدد ولايات الرئيس وهو ما يرشح علياف البالغ من السن ثلاثة وخمسين سنة لحكم أذربيجان لسنوات عديدة مقبلة. المعارضة تنتقد كذلك تلجيمه لحرية التعبير وسجنه لمعارضيه خصوصا محمدوف أشهر المعارضين والذي لم يخض غمار الانتخابات الرئاسية نظرا لوجوده في السجن وكذا القيام بانتخابات أشهر قبل أوانها مما جعل بعض الأحزاب المعارضة تقاطعها نظرا لعدم استعدادها لها.

لا أحد يجادل فيما تقول به المعارضة؛ ولكن ما هو صحيح كذلك أن الانتخابات (رغم عدم توفر شروط مثالية قبلية للكل للتباري حولها) مرت في جو لم تشبه تجاوزات؛ ما لم يفهمه الرئيس هو أن الفوز بنسبة ستين أو أقل (بدل ثمانين) يعطيه مصداقية أكثر وأن فوز المعارضة بنسبة محترمة مهم للديمقراطية؛ وما تفهمه المعارضة جيدا هو أنه رغم فتح الباب على مصراعيه للتباري بشكل ديمقراطي لا غبار عليه فسوف لن ينقص ذلك من شعبية علياف البادية للعيان.

مستقبل أذربيجان هو في المرور إلى ديمقراطية أكثر وضوحا مع وجود زعامة لها من الشرعية الشعبية والتاريخية ما يجعلها قادرة على خلق التوازنات الضرورية في فضاء يلعب فيه الكبار لعبة شطرنج متحولة تحول كثبان الرمل على شاطيء بحر القزوين. حلم الأذربيجانيين هو المزاوجة بين ماض يريدون تبنيه بفخر ومستقبل يعانقونه بشجاعة وابتسامة بادية على محيا شباب باكو الحالم بغد أفضل. مقاربة ممكنة وأمل مشروع .. تلكم أذربيجان الماضي والحاضر والمستقبل.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *