منتدى العمق

مسلمات في السلطة ونظام الحكم تحتاج لمراجعات: نموذجي العقد الاجتماعي وعقد البيعة

لننطلق من مسلمتين اثنتين مؤطرتين لحقل النظرية السياسية، فالأولى كمعطى فلسفي غربي مدارها التعاقد الاجتماعي أو العقد الاجتماعي بوصفه عقدا يتخلى بموجبه المحكومون عن بعض حقوقهم الطبيعية لينتقلوا لحالة التنظيم الجماعي المدنية التي تفوض للحاكم القيام بأعباء هذا التنظيم، إذ يستحق بذلك الحاكم حقه في استعمال العنف المشروع الذي لا ينافسه فيه أحد ولا سلطة أخرى. فتصير الدولة ،كما نظر لها هوبز ولوك ومونتسكيو وغيرهم، دولة متأهلة لها طقوسها ودياناتها حتى ولو حاولت الانسلاخ عن الديانات السماوية، إذ تسقط على نقيض مقصودها في استبدال الطقوس الدينية بطقوس وثوابت أخرى من صنعها (كالدستور والشعارات، والمقابر الوطنية، والقسم الدستوري أو اليمين الدستوري…)؛ و أيا تكن خلفية هذه الدولة علمانية أو دينية فهي تصير بمنطق هذا التعاقد دولة فوق المجتمع وليست مسايرة له، لأن منظومة فصل السلط التي يفترض أن تضبط موازين القوى بين السلطتين التشريعية والتنفيذية لتحمي السلطة القضائية التي لا تحوز أية قوة كما تحوزها السلطة التشريعية (ارتباطها بالرأي العام) أو السلطة التنفيذية (استحقاقها ممارسة القوة أو العنف المشروع)، تصير بنفسها (أي منظومة فصل السلط) منظومة ممركزة للسلطة في يد السلطة التنفيذية لأنها مبنية على قاعدة الفصل وليس على قاعدة التوزيع العادل لها، وهو الامر الذي يتبدى جليا حينما ندرك أن الذي يشرع في منظومة الدولة الحديثة هو البرلمان الذي منه تنبثق السلطة التنفيذية، حتى يصيرا سلطة واحدة في نهاية المطاف، بينما يُستدرج القضاء – رغم استقلاله شكليا بمؤسسته الخاصة التي لا تتدخل في عمله مؤسسة أخرى- إلى الارتباط بمؤسستي التشريع والتنفيذ حينما يحكم هذا القاضي في نهاية المطاف بالقوانين التي خطتها أيدي المشرع الذي تُفرز منه السلطة التنفيذية ذاتها؛ ولعل إشارات المستشار طارق البشري في هذا الصدد عديدة وبليغة يمكن الرجوع إليها. هذا دون أن نغفل أن عمليات التصويت والتشريع في الدولة الحديثة، ورائها آلات ضخمة يقودها أهل النفوذ من مال وإعلام وسلاح، يؤثرون على الناس وعلى النخب وعلى الحكام أنفسهم، من أجل استدامة عسف الدولة وتألهها على المجتمع وعلى الناس أجمعين. وهو أمر لا يشفع في نكرانه الرفاه الاجتماعي والفردي الذي قد يبدو للعيان، لأنه مقرون بعنصرية الدولة الحديثة وارتباطاتها الاستعمارية التي بموجبها تأكل من موارد دول أخرى للحفاظ على أمنها وسلمها.

أما المسلمة الثانية، المرتبطة بنظرية الحكم في الإسلام، فإنها، ويا للغرابة، يتغافل عنها أهل النظر من المسلمين، إما جهلا، أو طمعا.. لأن مدارها أن الحاكم في المنظومة الإسلامية له أدوار تنفيذية محضة، حدودها مضبوطة ومسيجة بسياج متين، يصعب أن تنفذ لها الأهواء والأطماع، لأن التشريع في هذه المنظومة موزع بين تشريع مبتدأ لا يقربه لا أهل الأهواء ولا أهل الفكر ولا أهل المال أو الإعلام، فهو متفاضل عنهم أجمعين، وتشريع تابع لا يتم بالأصوات المصنوعة في مخافر الدولة ونخبها المتعالين عن الناس، بل هو تشريع كان يقوم به الفقهاء من خلال تحاورهم الدائم وتناظرهم فيما بينهم من جهة وفيما بينهم وبين عموم الناس من جهة أخرى، تناظرا مباشرا بدون وساطات ولا حواجز، وبدون أصوات في أماكن مغلقة، بل كان يتم ذاك التحاور والتثاقف في كل الاماكن (في الساحات وداخل المساجد وعلى أبوابها، وفي المدارس، وفي المستشفيات…) وفي كل الأوقات حتى يبرز الفقيه المتنور العارف بأمور الدين والدنيا، الحائز على رضى الناس “واعترافهم العام” بسلطته المعرفية، ليس لأنه يقوم الليل ويصلي، فهذا أمر واجب شرعا وخلقا، ولكن لمقدرته على توليد الأحكام وتوليفها مع مستجدات العصر، مع الانضباط التام لمرجعية الأمة الموجهة. وكل هذا يتم بالناس ومع الناس ومن خلال الناس. وعليه انبرى الناس يقومون –أنفسهم- بوظائفهم التي تقوم بها الدولة الحديثة اليوم، إذ كانوا مثلا، لا يقصدون القاضي إلا لماما في حين يتوجهون للمفتي -المعين بشكل طبيعي من قبلهم- الذي ليس له أية سلطة عليهم إلا سلطته المعرفية المعنوية فيرضخون لفتاواه، ونفس الأمر يقال عن المحتسب الذي كان يراقب الأسواق والأثمان، بتكليف من الناس قبل أن يتنافس في ذلك الأمراء والخلفاء فصارت الحسبة وظيفة للدولة في مراقبتها لشطط عمالها وولاتها.

فالناس كانوا ينضبطون لسلط الفقيه المعرفية والمعنوية لأنهم كانوا من جهة، متشاركين معه في هذه السلط وهم من منحوها إياه، كما أنهم كانوا من جهة اخرى منضبطين لأحكام الدين ليس بوصفها نصوصا وقواعد مجردة فقط، بل لأنها كانت، بحسبهم، قواعد فقهية حلت فيهم وتمثلوها أحسن تمثل في سلوكهم ومعاشهم، حتى صارت جزءا من حياتهم، كالضرر يزال شرعا، ولا ضرر ولا ضرار، والغنم بالغرم والخراج بالضمان…فلم يكن القضاة يحتاجون لتعقيدات المساطر لكي يحكموا في الأقضية التي تثار أمامهم، بل كانت تسعفهم فقط، وفي كثير من الأحيان، “الحيل” أو “القَسم” لتُحل الأقضية في غالب الاحيان بالاعتراف والتصالح واستراد الديون والمظالم.

ومما لاشك فيه أن هذا السلوك الجماعي مرتبط، وهنا مكمن الداء، بمفهوم عقد البيعة، الذي هو مخالف تمام المخالفة لمفهوم العقد الاجتماعي، فإذا كان العقد الاجتماعي ينطلق من مسلمة تطويق الحاكم كمعطى يصعب تحققه حين يتنازل الناس عن حقوقهم لصالحه، فإن عقد البيعة، وكما انتبه لذلك في إشارة بليغة جدا الدكتور مصطفى كمال وصفي، يطوق المحكومين بالتزامات -لا بتخلي عن حقوق- بوصفها التزامات (بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوني في معروف…الحديث) تصنع، أولا، الجماعة المتراصة المتآلفة المتعارفة المتراحمة (كما يحب أن يَسِمها أستاذي سعيد خالد الحسن)؛ وتطوق بها، ثانيا، الحاكم المستبد، فيضطر لالتزام ما التزم به الناس.

وهنا بالذات أختم بسؤال لا يطرحه الكثيرون إلا مقلوبا، أليس شائعا بين الناس أن الحكام الأمويين كانوا مستبدين؟؟؟ وأنهم تطبعوا بحياة الترف والفساد ووو؟؟؟ وهذا أمر لا ينكره إلا مكابر… لكن لماذا انفرج سلطان الجماعة السياسية الاموية فحققت ما حققت من فتوحات وانتصارات تزكوية وعمرانية منقطعة النظير؟؟؟

والله من وراء القصد وهو أعلى وأعلم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *