وجهة نظر

دولة سعاية

سنة 1970 قرر مهاتير محمد إيقاظ شعب ماليزيا فوجه صفعته الشهيرة “مُعضلة المالاي”. ثورة ماليزيا بدأت ثقافية قبل أن تغدو صناعية و تغدق الأموال على رؤوس المزارعين الفقراء (دخل فردي تطور من 1000 دولار للفرد سنة 1950 إلى 16000 دولار سنة 2002)، فالمعارك تكسب في عقول الرجال أولا.

كتاب” مُعضلة المالاي” انتقد فيه محمد كسل و خمول شعب يشكل 60 في المائة من ساكنة ماليزيا و لا يدرك سوى الفتات من الثروة. انتقد خنوع الفقراء و استبدالهم الذي هو أدنى باللذي هو خير: فقر و كسل و زراعة معيشية، مقابل صناعة و رؤوس أموال محتكرة من مستعمر بريطاني و أقلية صينية.

مهاتير لم يقرر أن تنظم كل بلدة و مدينة في ماليزيا مهرجانها الخاص باستقطاب شيخات و لعابات لإثراء حياة ثقافية كاذبة، و إفقار ميزانيات مخصصة للمستشفيات و المدارس و البنيات. محمد قرر توجيه كل سنت و تركيزه على ثلاث قطاعات هي قاطرة ما تبقى: تعليم ذكي و عصري، صناعة متقدمة و متوطنة، و بينهما قطاع اجتماعي صلب يكفل كرامة المواطن.

مكن مهاتير محمد أبناء فقراء مزارعين من ولوج مدارس ذكية بأحدث التكنولوجيات اليابانية كي يتعلموا لغة العصر و مفتاحه الذهبي. قدمت المنح و الوجبات و منازل الإيواء و النقل لأبناء الفقراء بميزانية وصلت 23.4% من نفقات الدولة.

لم يكون أبناء الفقراء يتجهون للمدارس عراة في الثلوج حفاة في الصحاري، و لا أبناء الطبقة الوسطى يشترون النقط و الشهادات مقابل المال، و لا ذرية الأغنياء يتدربون بمدارس القناطر على قيادة القطيع خمس أيام في الأسبوع. النتيجة جيل من القيادات من أبناء المهمشين مقابل عبادة مقولة “حرفة بوك لا يغلبوك!

قائد نهضة ماليزيا تعاقد مع اليابان فمنحته رؤوس الأموال و التكنولوجية (توطين الصناعات) مستغلا التجاذب بين الشيوعية و الرأس مالية في بناء وطنه و ليس الحفاظ على كرسيه. تمكنت ماليزيا من تصنيع سيارتها الوطنية 100% و لم تنتظر سنة 2020 بعد أن أصبح وزير البحث العلمي وزيرا للبوطة و الدقيق و سانيدا!

ماليزيا بين 1970 و 2000 ركزت على دعم الطبقات الفقيرة بشكل مباشر، لكن محافظ على الكرامة، فلم تكن النساء تتكدسن و تخبزن تحت الأقدام بحثا عن كيس دقيق مقدم من حزب الأمس و اليوم، و لا المُهمشين يُلتقط على ظهورهم السيلفي ب”ياغورت”، و لا يشكلون وقود انتخابات فتوزع مئونة 20 على مائة و 100 على 1000 ابتغاء أصوات الانتخابات الحرة و الشفافة.

فقراء ماليزيا توفرت لهم مستشفيات محترمة و محاكم عادلة و بطاقات ذكية لا تسمح بالولوج المجاني للخدمات إلا للمستحقين من الشعب. لن تجد مليونيرا يزاحم فقيرا لأخد منحة و لا مسئولا يتباهى بتقديم قفة بائسة أمام الشاشات لفئة مهمشة هشة و فقيرة. يطرح السؤال: هل سقطت من السماء هشة؟ هل نبتت تحت الأرض فقيرة؟ سولو حديدان؟!

ثورة ماليزيا ما كانت لتنجح لولا إعلام يحمي عقول المواطنين و يهيئهم لولوج عصر الحداثة (ديال بصح). جهاز الرقابة “آسترو” كان يعطل بث جميع قنوات العالم 10 دقائق حتى يميز الخبيث من الطيب، فلا يسمح بتمرير قيم قد تضر مشروع الأمة. لم تكن قناة ماليزيا الثانية تبث الحموضة بداعي الترفيه الملغم بالكلمات الساقطة و ألوان قوس قزح الشواذ جنسيا…و ما خفي أعظم!

ماليزيا 1997 كانت الدولة الوحيدة بين نمور آسيا من نفذت من فخاخ صندوق النقد الدولي فرفضت خطط إعلان الإفلاس أو أخد أموال مقابل التفريط في السيادة و القرار. وضعت خطة تقشف طبقت على الكبار، و استردت الأموال المنهوبة بقوة القانون، و ليس بالسعاية و الاستجداء :عفا الله عما سلف!

ماليزيا استثمرت في الإنسان و ليس في العقار فكان من السهل تجنب أزمة 1997، مقابل دول اعتقدت العظمة في البنيان كما تفكير عاد و ثمود، فلم تضع مدخرات الأجيال في فيلات “كرين تاون” و لا أقفاز بتسمية سكن اجتماعي.

مهاتير محمد قرر تقوية اقتصاد وطنه فدخل صراعا مع بريطانيا و استحوذ على شركات المطاط و النخيل و استرد ثروات وطنه، و لم يحول الماء و الكهرباء و الهواء، ما بداخل الأرض و باطنها للمستعمر مدعيا الحداثة و الانفتاح.

النتيجة خامس أقوى اقتصاد بآسيا، و 200 مليار من الصادرات سنويا، صناعات حديثة و وطنية، سيارة محلية و ديون بلغت الصفر. مواطن “كوالا لامبور” يأكل ما يزرع و يلبس ما يصنع، لا يرتدي قميصا من تركيا و سروالا من أمريكا، حداء من إيطاليا و نظارات من إسبانيا،هاتف من كوريا و فنجان قهوة من البرازيل و غادي منفخ و عاجبو راسو!

*باحث في الجغرافية السياسية وكاتب رأي مغربي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *