رمضانيات

“من الوهابية إلى الإسلام” .. لشهب في المسجد السلفي الجهادي (الحلقة السابعة)

ضمن هذا الشهر الكريم، نعرض عليكم متابعي جريدة “العمق” سلسلة جديدة مع الكاتب خالد لشهب. يروي فيها تجربته من “اعتناق” مذهب بن عبد الوهاب إلى مخاض الخروج إلى رحابة الإسلام، بما يبشر به من قيم الجمال والتسامح والرحمة …

السلسلة هي في الأصل مشروع كتاب عنونه مؤلفه بـ «من الوهابية إلى الإسلام»، حيث يُحاول من خلال عرض تجربته بأسلوب يزاوج بين السرد والاسترجاع والنقد.

جريدة “العمق” ستعرض طيلة هذا الشهر الفضيل، الكتاب منجما في حلقات، يحاول من خلالها الكاتب نثر الإشارات التي قد تكون دافعا ووازعا لكثير من الشباب للخروج من ظلمة الوهابية إلى رحابة الإسلام عملا وظنا.

الحلقة السابعة: المسجد السلفي الجهادي

كنت أشرت إلى المسجد الذي استولى عليه أتباع الشيخ عبد السلام ياسين في اتحادهم مع العوام، بعد أن كان أقام أركانه الإخوة. فأتباع الشيخ عبد السلام ياسين استطاعوا التماهي مع مقولات العوام في جواز قراءة القرآن جماعة وبعض من السلوكات التي تهم أحوال الإمام خاصة في الأخذ من لحيته وإسبال سرواله، بينما خسر الإخوة المعركة بعد حرب طاحنة كانت تصل إلى حد السباب واللعان والتهديد بالقتل والرمي بالزندقة، لقد كان الإخوة يريدون فرض تصوراتهم على المسجد.

ترك السلفيون وأنا معهم المسجد واتجهنا لبناء مسجد آخر بعيدا عن الأول، وكان هذا الأمر ناجحا لأن المكان الذي أنشئ فيه كان قريبا من ساحة يتغول فيها الإخوة خاصة من أصحاب السوابق والماجنين، وكانت هذه أول مرة يقيم فيها السلفيون شعائرهم بما يمليه الأثر والخبر لا ما تمليه وزارة الأوقاف ومذهب مالك، هذه الأخيرة التي كانوا يطلقون عليها اسم وزارة التوقيف، لزعمهم أن وظيفتها هي إيقاف الدين وليس خدمته.

لكن ورغم ذلك بقيت إشكالية الإمام الراتب حاضرة مادام أنه لم يكن من الإخوة حامل لكتاب الله، لأن أغلبهم أدركه الالتحاق بالمذهب في سن متقدمة أو بعد سنوات ماجنة، ولهذا كانت إشكالية الصلوات الجهرية تطرح مشكلا عويصا، حيث إن الأخ المتقدم للصلاة غالبا ما يكرر الآيات نفسها والسورة نفسها حتى يمل المأموم. وأنا كنت يومها قد وصلت لحفظ نصف القرآن، فكنت أتقدم مرة مرة حين لا يوجد أحد من الإخوة المعهود لهم بالإمامة، وكان بعض من كبار الإخوة الذين طبع الله على عقولهم لا يعجبهم أن أتقدم للإمامة لأنه كان ينظر إلي غير مؤهل سنا لذلك، ويفضل أن يتقدم من هو أكبر مني حتى وهو لا يحفظ من القرآن إلا قصاره.

كان ارتباطي بالمسجد شديدا، فكنت أقطع مسافة طويلة مخترقا الحي الصفيحي في عجل قبل الأذان، أتوضأ وأنتظر الصلاة، وإذا حضر وقت الأذان قمت فأذنت إذا لم يؤذن “با محمد” الرجل الأعمى الذي نذر نفسه لهذه المهمة. كنت كلي يقين بما أنا عليه من المذهب لا يكان عقلي يتحرك إلا جدالا لأهل البدع والزيغ كما نسميهم المبتدعة من جماعة الشيخ ياسين أو من أتباع الشيخ المغراوي المعروفين عندنا بالمرجئة، كان هذا لخلاف شديد في مسائل الحاكمية والجهاد والتكفير كما سأبين في ما يتقدم.

كنا نسمي أصحاب الشيخ المغراوي أهل البطون والفروج لأنهم كانوا يعطلون الجهاد ولا يعدون له العدة، فلانت أكفهم وانتفخت بطونهم التي تخفيها الأقمصة المراكشية الواسعة جدا، و كنا نسخر من لباسهم الذي يتسع لشخصين وقلنسوتهم الشبيهة بالبغريرة من كثرة ثقوبها.

كان الحي الصفيحي يضم أكبر تجمع سلفي جهادي في المغرب، فإنه لئن كانت المساجد في المملكة يصلي فيها السلفي والسلفيان والعشرة والعشرون، فإن هذا الحي كان يعج بالسلفيين، وفيه يقيمون المذهب كما يتصورونه على رأي الحنابلة وأهل الأثر. وقد حدث أن امتد هذا إلى فرض الوصاية على العامة حيث يقيم الإخوة حملات تمشيطية ليلا في الضواحي المظلمة بحثا عن الماجنين والعشاق ونصحهم وتعزير من قاوم منهم وإذلاله، بل كان يصل الأمر ببعض المتنطعين إلى جعل هذه الحملات الليلية سبيلا لسلب الناس أموالهم بذريعة أنها غنيمة، وكم من العشاق والسكارى سلبوا أمتعتهم بهذه الذريعة التي سنها الشيخ محمد بن عبد الوهاب كما سأبين لاحقا.
ورغم هذا فقضية الغنيمة لم تكن شائعة ولم يكن عليها إجماع الإخوة، بل كانوا يستنكرون فعل ذلك ويشنعونه، وقد كنت أسمع كثيرا من عقلاء الإخوة وكبارهم يحث على الدعوة إلى الله بالحسنى فقط، لكن دوافع المغتنمين كانت في الغالب شخصية ورثوها من حياة المجنون وشرعنوها بالدين.

لكن فكرة وجوب تغيير المنكر ظلت حاضرة وقوية، إذ يجد الفرد نفسه مجبرا على توجيه النصح للآخرين وإنكار ما يحسبه منكرا، حتى إن عتاة المجرمين في الحي لم يكونوا ليقدروا على رد كلمة الإخوة ولا الجرأة على فرد منهم مهما كان حقيرا، حتى أدركت المراهق السلفي ينتفض في وجه الماجن العاتي ويصفه بالمجرم وعدو الله فلا يقدر الماجن على قول شيء؛ لأنه يعلم أن وراءه عشرات من السلفيين المتحدين يحمون ظهره.

وعلى هذا الأساس كان الوافد الجديد يجد نفسه أمام أصدقاء تجمعهم المبادئ نفسها والأهداف، وكان يسود جو من الاحترام والتوالف والتعاون لا نظير له بين العامة كما هي عادة غالب التجمعات الأيديولوجية من هذا القبيل والإسلامية منها على الخصوص.

لقد كنت سلفيا وهابيا حقا، حفظت القرآن وقرأته بروايتين، عكفت على حفظ الأحاديث وكانت عيني على حفظ صحيح الإمام مسلم، وقد كنت أحفظ كثيرا من متداول الحديث. أدمنت على قراءة كتب الحنابلة من المتقدمين والمتأخرين وفتاويهم وجادلت وخاصمت بها. احترفت الرقية الشرعية يوم لم يكن أمرها قد شاع في بداية الألفية، كنت أدخل البيت وأقرأ على مريضهم بمبلغ لا ينزل على المائة درهم، لكن نصح أحد الإخوة لي بكون هذا المال حرام سحت جعلني أكف رغم إلحاح بعض المرضى على بالمواصلة.

قضيت وقتا طويلا من حياتي في جدال المخالفين من داخل المذهب. أعددت العدة للجهاد وكان هدفي وأنا المراهق المندفع أن أصل أرض المعركة في القوقاز وأموت شهيدا في سبيل الله. لقد كانت بروباغندا المشاهد الجهادية التي أدمنت على حفظ صوتياتها وتردادها في زمن “الووكمان” تغويني بالنفير وتشعرني بالتقصير. فلم يكن ليقع في خلدي أن الجهاد ليس جهادا في سبيل الله ونصرة للمستضعفين ولكنه فقط جري لتحقيق مصالح من لا تربطهم بالإسلام رابطة.

كنت مثل أي سلفي اليوم يرى في اتباع شيوخ الوهابية الخلاص. سواكي في يدي وقنينة عطر رخيص في جيبي، وقلنسوتي على رأسي أترقب الصلاة، وأرى في الناس مجموعة من الغافلين الذين زاغوا عن الصراط وأسأل الله لهم الهداية. لقد كان مطمحي كما هو مطمح كل السلفيين اليوم هو أن أستيقظ وقد أرخى الرجال لحاهم، والنساء وقد اختمرن فلا يظهر منهن شيء. لقد كنت غبيا وساذجا بما يكفي.

لم أكن في يوم من الأيام أصدق أنه سياتي يوم أكون فيه خصيما لمذهب ابن عبد الوهاب، فحتى التفكير بالخروج من المذهب لم يكن ليخطر على بالي مطلقا ولو من باب الوسواس، بل العكس من ذلك تماما كنت أشغل وأعمل فكري ونظري باستمرار في البحث عن ما يبقيني داخل المذهب. وعلى هذا ذأب أهل اليقين عموما حين يوقنون أنهم على الحق فيقدمون أرواحهم ليس طلبا للمال كما يدعي أهل النقص، ولكن فداء لما يؤمنون به، حتى أني كنت غالبا أطيل السجود وأدعوا الله أن يرزقني الثبات على الحق، وكان يحدث في كثير من الأحيان أن أستيقظ وأستبق أذان الفجر وأقصد المسجد في الظلمة الحالكة مشيا في براثن الحي الصفيحي، أفتح المسجد وأصلي وأبكي راجيا من الله تعالى أن يريني الحق حقا ويرزقني اتباعه وأن يريني الباطل باطلا ويرزقني اجتنابه … فنسأل الله الإخلاص في القول والعمل.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *